فصل: الحالة الأولى: الوكالة من صاحب الأرض

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


آثار المزارعة

تترتّب على المزارعة آثار تختلف باختلاف صحّتها أو فسادها‏.‏

أوّلاً‏:‏ الآثار المترتّبة على المزارعة الصّحيحة

35 - إذا توافرت شروط صحّة المزارعة انعقدت صحيحةً وترتّب عليها الآثار الآتية‏:‏

أ - على المزارع كل عمل من أعمال المزارعة ممّا يحتاج الزّرع إليه لنمائه وصلاح حاله‏,‏ كالرّيّ والحفظ وتطهير المراوي الدّاخليّة والتّسميد‏,‏ نصّ على ذلك الحنفيّة و الحنابلة‏,‏ لأنّ عقد المزارعة قد تناول هذه الأشياء فيكون ملزماً بها‏.‏

ب - على المزارع تقليب الأرض بالحرث ‏"‏ الكراب ‏"‏ إن أشترط في العقد‏,‏ لأنّه شرط صحيح فوجب الوفاء به‏,‏ وإن سكتا عنه ولم يشترطاه‏,‏ أجبر عليه أيضاً إن كانت الأرض لا تخرج زرعاً أصلاً بدونه‏,‏ أو كان ما تخرجه قليلاً لا يقصد مثله بالعمل‏,‏ لأنّ مطلق عقد المزارعة يقع على الزّراعة المعتادة‏,‏ أمّا إذا كانت الأرض ممّا تخرج الزّرع بدون حاجة إلى الحرث زرعاً معتاداً يقصد مثله في عرف النّاس‏,‏ فإنّه لا يجبر عليه المزارع‏,‏ نصّ على ذلك الحنفيّة‏.‏

وعلى هذا إذا امتنع المزارع عن سقي الأرض بالماء‏,‏ وقال‏:‏ أتركها حتّى تسقى من ماء المطر‏,‏ فإن كان الزّرع ممّا لا يكتفي بماء المطر‏,‏ وإنّما يحتاج إلى الرّيّ بالماء‏,‏ فإنّه يجبر عليه‏,‏ لأنّ مطلق عقد المزارعة يقع على الزّراعة المعتادة‏,‏ وإن كان ممّا لا يحتاج إليه‏,‏ وإنّما يكفيه ماء المطر‏,‏ ويخرج زرعاً معتاداً به‏,‏ فإنّه لا يجبر عليه‏,‏ وقد نصّ على ذلك الحنفيّة‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ يلزم العامل بما فيه صلاح الثّمرة والزّرع من السّقي والحرث ونحوهما‏.‏

ج - على صاحب الأرض تسليمها إلى المزارع ليزرعها أو يعمل عليها إذا كان بها نبات‏,‏ لأنّ عدم التّسليم يمنع التّخلية بين الأرض والعامل وهو مفسد للمزارعة‏.‏

د - على صاحب الأرض‏,‏ الأعمال الأساسيّة الّتي يبقى أثرها ومنفعتها إلى ما بعد عقد المزارعة‏,‏ كبناء حائطٍ وإجراء الأنهار الخارجيّة‏,‏ ونحو ذلك ممّا يبقى أثره ومنفعته‏,‏ نصّ على ذلك الحنفيّة‏,‏ و الحنابلة‏.‏

هـ - على صاحب الأرض خراجها عند الحنفيّة و الحنابلة‏,‏ ولا يجوز عندهم اشتراطه على المزارع‏,‏ ولا دفعه من المحصول والباقي يقسم عليهما‏,‏ ووجه ذلك كما قال الحنفيّة‏:‏ إنّ الخراج مبلغ معيّن من المال‏,‏ فاشتراط دفع هذا المبلغ من الخارج من الأرض بمنزلة اشتراط ذلك القدر من الخارج لصاحب الأرض‏,‏ وهذا شرط فاسد‏,‏ لأنّه يؤدّي إلى قطع الشّركة في الرّيع مع حصوله‏,‏ لجواز ألّا يحصل إلّا ذلك القدر أو دونه‏.‏

و - على المزارع وصاحب الأرض معاً‏,‏ كل ما كان من باب النّفقة على الزّرع‏,‏ ويكون ذلك على قدر حقّهما كثمن السّماد وقلع الحشائش المضرّة‏,‏ وعليهما أيضاً أجرة الحصاد‏,‏ وحمل المحصول إلى الجرن‏,‏ والدّياس‏,‏ والتّذرية‏,‏ لأنّ هذه الأعمال ليست من أعمال المزارعة حتّى يختصّ بها المزارع وحده‏.‏

وروي عن أبي يوسف وغيره أنّ هذه الأشياء الأخيرة على المزارع لتعامل النّاس بذلك‏,‏ وهذا عند الحنفيّة‏.‏

ز - يقسم محصول الأرض بين صاحبها والمزارع على حسب الاتّفاق المبرم بينهما‏,‏ وعلى كل من المزارع وصاحب الأرض‏,‏ حمل نصيبه من المحصول وحفظه بعد القسمة‏,‏ لأنّه بانتهاء قسمة المحصول ينتهي عقد المزارعة‏,‏ فكل عمل بعد ذلك يتحمّل صاحبه نفقاته‏,‏ نصّ على ذلك الحنفيّة‏.‏

ح - قال الحنفيّة‏:‏ إن كان ما جاز إنشاء العقد عليه جازت الزّيادة عليه وما لا فلا‏,‏ أمّا الحط فجائز في الحالين معاً‏.‏

وعلى هذا فالزّيادة والحط على وجهين‏:‏

إمّا أن يكون ذلك من المزارع‏,‏ وإمّا أن يكون من صاحب الأرض‏,‏ وإمّا أن يكون بعد حصاد الزّرع‏,‏ وإمّا أن يكون قبله‏.‏

ولا يخلو إمّا أن يكون البذر من المزارع وإمّا أن يكون من صاحب الأرض‏.‏

فإن كان بعد الحصاد - والبذر من قبل العامل - فإنّ الزّيادة لا تجوز من العامل‏,‏ وإنّما ينقسم المحصول على حسب الاتّفاق المبرم بينهما‏.‏

وإن زاد صاحب الأرض في نصيب المزارع‏,‏ ورضي بها المزارع‏,‏ جازت الزّيادة‏,‏ ووجه ذلك‏:‏ أنّ المزارع في الحالة الأولى زاد على الأجرة بعد انتهاء عمل المزارعة باستيفاء المعقود عليه وهو المنفعة‏,‏ وهذا لا يجوز لأنّهما لو أنشآ عقد المزارعة بعد الحصاد لا يجوز‏,‏ فكذلك الزّيادة على النّصيب لا تجوز بعد‏,‏ أمّا في الحالة الثّانية‏,‏ فقد حطّ صاحب الأرض من الأجرة‏,‏ والحط لا يستلزم قيام المعقود عليه‏.‏

هذا إذا كان البذر من العامل‏,‏ أمّا إن كان البذر من صاحب الأرض فزاد صاحب الأرض من نصيب المزارع‏,‏ فإنّ الزّيادة لا تجوز‏,‏ ولكن إن زاد المزارع في نصيب صاحب الأرض جازت الزّيادة لما ذكر‏.‏

هذا إذا كانت الزّيادة من أيّهما بعد حصاد الزّرع‏.‏

أمّا إن كانت قبله فإنّها جائزة من أيٍّ منهما‏,‏ لأنّ الوقت يحتمل إنشاء العقد‏,‏ فيحتمل الزّيادة‏,‏ بخلاف الأمر بعد الحصاد فإنّه لا يحتمل إنشاء العقد‏,‏ فلا يحتمل الزّيادة عليه‏.‏

أمّا الحط فجائز في الحالين أي قبل الحصاد وبعده‏.‏

ط - إذا لم تخرج الأرض شيئاً فلا يستحقّ أحدهما تجاه الآخر أيّ شيء‏,‏ لا أجر العمل للعامل ولا أجرة الأرض لصاحبها‏,‏ سواء أكان البذر من قبل العامل أم كان من قبل صاحب الأرض‏,‏ لأنّها إمّا إجارة أو شركة‏,‏ فإن كانت إجارةً فالواجب في العقد الصّحيح منها هو المسمّى - وهو معدوم - فلا يستحقّ غيره‏,‏ وإن كانت شركةً فالشّركة في الخارج فقط دون غيره‏,‏ وليس هنا خارج‏,‏ فلا يستحقّ غيره‏,‏ نصّ على ذلك الحنفيّة‏.‏

ثانياً‏:‏ الآثار المترتّبة على المزارعة الفاسدة

36 - إذا فسدت المزارعة لفقدان شرطٍ من شروط صحّتها ترتّبت عليها الآثار التّالية‏:‏

أ - عدم وجوب أيّ شيء من أعمال المزارعة على المزارع‏,‏ لأنّ وجوبه بالعقد الصّحيح‏,‏ وقد فسد العقد‏,‏ فلا يطالب المزارع بأيّ عمل من الأعمال المترتّبة عليه‏.‏

ب - قال الحنفيّة و الحنابلة‏:‏ يستحقّ صاحب البذر الخارج كلّه من الأرض‏,‏ سواء أكان صاحبه هو المزارع أم ربّ الأرض‏,‏ وعليه الأجرة لصاحبه‏.‏

ووجه ذلك عند الحنفيّة‏:‏ أنّ استحقاق صاحب البذر الخارج لكونه نماء ملكه وهو البذر‏,‏ لا بالشّرط لوقوع الاستغناء بالملك عن الشّرط‏,‏ واستحقاق الأجر الخارج بالشّرط وهو العقد‏,‏ فإذا لم يصحّ العقد استحقّه صاحب الملك ولا يلزمه التّصدق بشيء لكونه نماء ملكه‏.‏

وإذا كان البذر من قبل صاحب الأرض أخذ الخارج كلّه ووجب عليه للعامل أجر مثل عمله‏,‏ وذلك باتّفاق الفقهاء‏.‏

ووجه ذلك عند الحنفيّة‏:‏ أنّ صاحب الأرض يكون مستأجراً للعامل‏,‏ فإذا فسدت الإجارة وجب له أجر مثل عمله عليه‏.‏

وإذا كان البذر من قبل العامل فإنّه يستحقّ الخارج كلّه‏,‏ ووجب عليه لصاحب الأرض أجرة مثل أرضه‏,‏ وهذا بالاتّفاق أيضاً‏.‏

ووجه ذلك عند الحنفيّة‏:‏ أنّ العامل يكون مستأجراً للأرض‏,‏ فإذا فسدت الإجارة وجب عليه مثل أجر الأرض لصاحبها‏.‏

وهل يطيب النّاتج لصاحب البذر عندما يستحقّه‏؟‏ في المسألة تفصيل‏:‏

إذا كان البذر من قبل صاحب الأرض واستحقّ الخارج كلّه وغرم للعامل أجر مثل عمله‏,‏ فإنّ الخارج كلّه من الأرض يكون طيّباً له‏,‏ لأنّه ناتج من ملكه وهو البذر - في ملكه - وهو الأرض - نصّ على ذلك الحنفيّة‏.‏

أمّا إذا كان البذر من قبل العامل‏,‏ واستحقّ الخارج كلّه وغرم لصاحب الأرض أجر مثل أرضه‏,‏ فإنّ الخارج كلّه لا يكون طيّباً له‏,‏ وإنّما يأخذ من الزّرع قدر بذره وقدر أجر مثل الأرض ويطيب له ذلك‏,‏ لأنّه سلّم له بعوض ويتصدّق بالفضل على ذلك‏,‏ لأنّه وإن تولّد من بذره لكن في أرض غيره بعقد فاسد‏,‏ فتمكّنت فيه شبهة الخبث‏,‏ وما كان هكذا فسبيله التّصدق به‏,‏ نصّ على ذلك الحنفيّة‏.‏

ج - ولا يجب أجر المثل في المزارعة الفاسدة ما لم يوجد استعمال للأرض‏,‏ لأنّ المزارعة عقد إجارة‏,‏ والأجرة في الإجارة الفاسدة لا تجب إلّا بحقيقة الاستعمال ولا تجب بمجرّد التّخلية‏,‏ لانعدام التّخلية فيها حقيقةً‏,‏ إذ هي عبارة عن رفع الموانع والتّمكن من الانتفاع حقيقةً وشرعاً ولم يوجد‏,‏ بخلاف الإجارة الصّحيحة‏,‏ نصّ على ذلك الحنفيّة‏.‏

5 - إذا استعمل المزارع الأرض في المزارعة الفاسدة وجب عليه أجر المثل وإن لم تخرج شيئاً ‏,‏ نصّ على ذلك الحنفيّة‏.‏

هـ - وأجر المثل في المزارعة الفاسدة يجب عند أبي يوسف مقدّراً بالمسمّى‏,‏ وعند محمّد بالغاً ما بلغ‏,‏ هذا إذا كانت الأجرة وهي حصّة كل منهما مسمّاة في العقد‏,‏ أمّا إذا لم تكن مسمّاةً فيه فإنّه يجب أجر المثل بالغاً ما بلغ عندهما معاً‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ المزارعة إذا وقعت فاسدةً بأن اختلّ شرط من شروط صحّتها فإنّها تفسخ قبل العمل‏,‏ فإن فاتت بالعمل وتساويا فيه فإنّ الزّرع يكون بينهما على قدر عملهما‏,‏ لأنّه تكوّن عنه ويترادّان غير العمل‏,‏ كما لو كانت الأرض من أحدهما والبذر من الآخر‏,‏ فيرجع صاحب البذر على صاحب الأرض بمثل نصف بذره‏,‏ ويرجع صاحب الأرض على صاحب البذر بأجرة نصف أرضه‏.‏

وإذا وقعت فاسدةً ولم يتكافآ في العمل‏,‏ بل كان العامل أحدهما فقط‏,‏ فالزّرع كله يكون للعامل‏,‏ لأنّه نشأ عن عمله‏,‏ وعليه أجرة الأرض لصاحبها وأجرة البقر لصاحبه أو مكيلة البذر لصاحبه إن كان العامل هو صاحب الأرض‏,‏ لكن شرط اختصاص العامل بالزّرع‏:‏ أن يكون له مع العمل إمّا بذر والأرض للآخر‏,‏ أو أرض والبذر للآخر‏,‏ وإذا لم ينضمّ إلى عمله شيء من أرض أو بذر أو بقر فليس له إلّا أجرة مثله‏,‏ لأنّه أجير وليس له من الزّرع شيء‏,‏ ولو كانت الأرض والبذر لكلّ من الشّريكين والعمل من أحدهما فالزّرع لصاحب العمل‏,‏ سواء كان مخرج البذر صاحب الأرض أو غيره‏,‏ وعليه إن كان هو مخرج البذر كراء أرض صاحبه‏,‏ وإن كان صاحبه مخرج البذر فعليه له مثل بذره‏.‏

قال العدوي‏:‏ وقد ذكر صاحب الجواهر في المزارعة الفاسدة‏:‏ إذا فاتت بالعمل ستّة أقوال‏:‏ الرّاجح منها أنّه لمن اجتمع له شيئان من ثلاثة أصول‏:‏ البذر والأرض والعمل‏,‏ فإن كانوا ثلاثةً واجتمع لكلّ واحد شيئان منها أو انفرد كل واحد بشيء واحد منها كان بينهم أثلاثاً‏,‏ وإن اجتمع لواحد شيئان منها دون صاحبيه كان له الزّرع دونهما وهو مذهب ابن القاسم واختاره محمّد‏,‏ ونقل شيخنا عبد اللّه عن شيخه ابن عبد الباقي أنّه المفتى به‏,‏ ومثل ذلك إذا اجتمع شيئاً لشخصين منهم فالزّرع لهما دون الثّالث‏,‏ فالصور أربع ويبقى النّظر في ثلاث صور‏:‏ الأولى‏:‏

أن تجتمع الثّلاثة لواحد منهم ولكلّ واحد من الباقين اثنان‏.‏

الثّانية‏:‏ أن تجتمع الثّلاثة لكلّ واحد من شخصين منهم ويجتمع للشّخص الثّالث اثنان‏.‏ الثّالث‏:‏ أن تجتمع الثّلاثة لواحد ويجتمع اثنان لواحد وينفرد الثّالث بواحد‏,‏ والظّاهر أنّ من له اثنان يساوي من له ثلاثة لأنّ من له ثلاثة يصدق عليه أنّه اجتمع له اثنان‏.‏

وقال الشّافعيّة في المزارعة الفاسدة‏:‏ إن أفردت أرض بالمزارعة فالمغل للمالك لأنّه نماء ملكه‏,‏ وعليه للعامل أجرة عمله ودوابّه وآلاته إن كانت له‏,‏ وسلّم الزّرع لبطلان العقد‏,‏ ولا يمكن إحباط عمله مجّاناً‏,‏ أمّا إذا لم يسلّم الزّرع فلا شيء للعامل لأنّه لم يحصل للمالك شيء‏.‏

وقال الحنابلة في توجيه الحكم المتّفق عليه مع الحنفيّة‏:‏ إنّ الزّرع يكون لصاحب البذر‏,‏ لأنّه عين ماله ينمو كأغصان الشّجر وينقلب من حال إلى حال‏,‏ وقالوا في تعليل كون الأجرة على من أخذ الزّرع لصاحبه‏:‏ أي لأنّه دخل على أن يأخذ ما سمّي‏,‏ فإذا فات رجع إلى بدله‏,‏ فعلى المذهب إن كان البذر من العامل فالزّرع له‏,‏ وعليه أجرة مثل الأرض‏,‏ وإن كان من ربّ الأرض فالزّرع له وعليه أجرة مثل العامل‏,‏ ولو دفع بذراً لصاحب أرض يزرعها فيها وما يخرج يكون بينهما فهو فاسد‏,‏ لأنّ البذر ليس من ربّ الأرض ولا من العامل فالزّرع لمالك البذر وعليه أجرة الأرض والعمل‏,‏ وقيل‏:‏ يصح‏.‏

الضّمان في المزارعة

37 - المزارع أمين على ما تحت يده من محصول لصاحب الأرض‏,‏ سواء أكانت المزارعة صحيحةً أم فاسدةً نصّ على ذلك الحنفيّة‏.‏

ويترتّب على كونه أميناً‏,‏ أنّه لا يضمن ما تحت يده من محصول لصاحب الأرض إذا هلك بدون تعد أو تقصير منه‏,‏ كما في سائر عقود الأمانات‏,‏ أمّا إذا تعدّى أو قصّر فإنّه يكون ضامناً له‏.‏

وإذا قصّر في سقي الأرض حتّى هلك الزّرع بهذا السّبب كان ضامناً له إذا كانت المزارعة صحيحةً لوجوب العمل عليه فيها‏,‏ وهي أمانة في يده فيضمن بالتّقصير‏,‏ أمّا لو كانت فاسدةً فإنّه لا يضمنه لعدم إيجابه عليه فيها‏.‏

قال الحنفيّة‏:‏ أكّار ترك السّقي عمداً حتّى يبس ضمن وقت ما ترك السّقيّ قيمته نابتاً في الأرض‏,‏ وإن لم يكن للزّرع قيمة قوّمت الأرض مزروعةً وغير مزروعة‏,‏ فيضمن فضل ما بينهما‏.‏

وإن شرط عليه رب الأرض الحصاد فتغافل حتّى هلك ضمن‏,‏ إلا أن يؤخّر تأخيراً معتاداً‏.‏ وإن ترك تأخير الزّرع حتّى أكله الدّواب كان ضامناً له‏,‏ هذا قبل الإدراك‏,‏ أمّا بعده فليس عليه ضمان‏,‏ لأنّ الحفظ بعده ليس على المزارع‏,‏ نصّ على ذلك الحنفيّة‏.‏

ما يفسخ به عقد المزارعة

38 - ينفسخ عقد المزارعة بالعذر الاضطراريّ‏,‏ وبصريح الفسخ ودلالته‏,‏ وبانقضاء المدّة‏,‏ وبموت أحد المتعاقدين‏,‏ وباستحقاق الأرض‏.‏

وتفصيل ذلك كما يلي‏:‏

أوّلاً‏:‏ العذر الاضطراري الّذي يحول دون مضيّ العقد

العذر الاضطراري إمّا أن يرجع إلى صاحب الأرض‏,‏ وإمّا أن يعود إلى المزارع‏.‏

أ - العذر الّذي يرجع إلى صاحب الأرض‏:‏

39 - أمّا العذر الّذي يرجع إلى صاحب الأرض فهو الدّين الفادح الّذي لا يستطيع صاحب الأرض قضاءه إلّا من ثمنها‏,‏ فلو كان عليه دين كهذا‏,‏ بيعت الأرض لسداد هذا الدّين وفسخ عقد المزارعة إذا أمكن فسخه‏,‏ بأن كان قبل زراعة الأرض‏,‏ أو بعدها ولكن الزّرع بلغ الحصاد‏,‏ لأنّه لا يمكن لربّ الأرض المضيّ في العقد إلّا بضرر يلحقه فلا يلزمه تحمله‏,‏ فيبيع القاضي الأرض بدينه أوّلاً‏,‏ ثمّ يفسخ عقد المزارعة‏,‏ ولا تنفسخ بنفس العذر‏.‏

أمّا إذا لم يمكن الفسخ بأن كان الزّرع بقلاً‏,‏ فإنّ الأرض لا تباع في الدّين ولا ينفسخ العقد إلّا بعد بلوغ الزّرع الحصاد‏,‏ نصّ على ذلك الحنفيّة‏,‏ لأنّ في البيع في هذه الحالة إبطال حقّ المزارع‏,‏ وفي الانتظار إلى وقت الحصاد تأخير حقّ صاحب الدّين‏,‏ وفيه رعاية للجانبين فكان أولى‏.‏

فإذا كان صاحب الأرض محبوساً بالدّين فإنّه يطلق من حبسه إلى غاية إدراك الزّرع‏,‏ لأنّ الحبس جزاء الظلم وهو المطل وهو غير مماطل قبل الإدراك‏,‏ لكونه ممنوعاً عن بيع الأرض شرعاً‏,‏ والممنوع معذور‏,‏ فإذا أدرك الزّرع فإنّه يرد إلى الحبس مرّةً أخرى ليبيع أرضه ويؤدّي دينه بنفسه‏,‏ وإلّا فيبيع القاضي‏.‏

ب - العذر الّذي يرجع إلى المزارع‏:‏

40 - وأمّا العذر الاضطراري الّذي يرجع إلى المزارع فنحو المرض الشّديد‏,‏ لأنّه معجز عن العمل‏,‏ ونحو السّفر البعيد‏,‏ لأنّه قد يكون في حاجة إليه‏,‏ ونحو تركه حرفته إلى حرفة أخرى‏,‏ لأنّ من الحرف ما لا يغني من جوع فيكون في حاجة إلى الانتقال إلى غيرها‏,‏ نصّ على ذلك الحنفيّة‏.‏

ثانياً‏:‏ فسخ المزارعة صراحةً أو دلالةً

41 - تنفسخ المزارعة باللّفظ الصّريح‏,‏ وهو ما يكون بلفظ الفسخ أو الإقالة‏,‏ لأنّ المزارعة مشتملة على الإجارة والشّركة‏,‏ وكل واحد منهما قابل لصريح الفسخ والإقالة‏.‏ أمّا الدّلالة‏:‏ فكأن يمتنع صاحب البذر عن المضيّ في العقد لعدم لزومه في حقّه قبل إلقاء البذر في الأرض‏,‏ فكان بسبيل من الامتناع عن المضيّ فيه بدون عذر ويكون ذلك فسخاً منه دلالةً‏,‏ نصّ على ذلك الحنفيّة‏.‏

ثالثاً‏:‏ انقضاء المدّة

4 - إذا انقضت المدّة المحدّدة لعقد المزارعة فسخ العقد لأنّها إذا انقضت فقد انتهى العقد وهو معنى الانفساخ‏,‏ نصّ على ذلك الحنفيّة‏.‏

رابعاً‏:‏ موت أحد المتعاقدين

43 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ المزارعة تفسخ بموت أحد المتعاقدين سواء صاحب الأرض‏,‏ أو المزارع‏,‏ وسواء أكانت الوفاة قبل زراعة الأرض أم كانت بعدها‏,‏ وسواء أكان الزّرع بقلاً أم بلغ الحصاد‏.‏

ووجه ذلك أنّ العقد أفاد الحكم للعاقد خاصّةً دون وارثه‏,‏ لأنّه عاقد لنفسه‏,‏ والأصل أنّ من عقد لنفسه بطريق الأصالة فإنّ حكم تصرفه يقع له لا لغيره إلّا لضرورة‏.‏

وذهب الحنابلة إلى ذلك أيضاً وقالوا‏:‏ إنّ على ورثة المزارع متابعة العمل إذا كان المزارع هو المتوفّى‏,‏ وكان الزّرع قد أدرك‏,‏ ولكنّهم لا يجبرون على ذلك‏,‏ وقالوا‏:‏ هذا ما لم يكن المزارع مقصوداً لعينه‏,‏ فإن كان مقصوداً لعينه لم يلزم ورثته ذلك‏.‏

خامساً‏:‏ استحقاق أرض المزارعة

44 - إذا أستحقّت أرض المزارعة قبل زراعتها أخذها المستحقّ وفسخ العقد‏,‏ ولا شيء للعامل على الّذي دفعها إليه ليزرعها‏,‏ حتّى ولو كان عمل فيها بعض الأعمال الّتي تسبق الزّرع كالحرث والتّسوية والتّسميد بالسّماد‏.‏

ولو أستحقّت بعد الزّرع وقبل الحصاد أخذها المستحقّ وأمرهما أن يقلعا الزّرع‏,‏ وخيّر المزارع بين أخذ نصف الزّرع على حاله‏,‏ ويكون النّصف الآخر للّذي دفع إليه الأرض مزارعةً‏,‏ وبين تضمين الّذي دفع الأرض نصف قيمة الزّرع نابتاً وترك له الزّرع كلّه‏.‏ ويضمن المستحقّ نقصان الأرض للزّارع خاصّةً‏,‏ ثمّ يرجع به على الّذي دفع الأرض إليه في قول أبي يوسف الآخر‏,‏ وفي قوله الأوّل - وهو قول محمّد بن الحسن - إن شاء ضمّن الدّافع وإن شاء ضمّن الزّارع‏,‏ فإن ضمّن الزّارع رجع به على الدّافع‏,‏ لأنّه هو الّذي غرّه فكان الضّمان عليه‏.‏

الآثار المترتّبة على الفسخ

الفسخ إمّا أن يكون قبل زرع الأرض‏,‏ وإمّا أن يكون بعده‏.‏

أ - الفسخ قبل الزّرع‏:‏

45 - إذا كان الفسخ قبل الزّرع فإنّ العامل لا يستحقّ شيئاً‏,‏ أياً كان سبب الفسخ أي سواء أكان بصريح الفسخ أم كان بدلالته‏,‏ وسواء كان بانقضاء المدّة أو بموت أحد المتعاقدين‏.‏ ووجه ذلك‏:‏ أنّ أثر الفسخ يظهر في المستقبل بانتهاء حكمه لا في الماضي‏,‏ فلا يتبيّن أنّ العقد لم يكن صحيحاً‏,‏ والواجب في العقد الصّحيح هو الحصّة المسمّاة‏,‏ وهي بعض نماء الأرض‏,‏ ولم يوجد هنا شيء‏,‏ فلا يجب للعامل أي شيء‏.‏

وقيل‏:‏ إنّ عدم الوجوب هو حكم القضاء‏.‏

فأمّا ديانةً فالواجب على صاحب الأرض إرضاء العامل فيما لو امتنع الأوّل عن المضيّ في العقد قبل الزّراعة‏,‏ ولا يحل له ذلك شرعاً‏,‏ لأنّه يشبه التّغرير وهو حرام‏.‏

ب - الفسخ بعد الزّرع‏:‏

أمّا إذا كان الفسخ بعد ما زرعت الأرض‏,‏ فإنّ هذا الفسخ إمّا أن يكون بعد إدراك الزّرع‏,‏ وإمّا أن يكون قبل ذلك‏.‏

الحالة الأولى‏:‏ الفسخ بعد إدراك الزّرع‏:‏

46 - إذا كان الفسخ بعد إدراك الزّرع وبلوغه مبلغ الحصاد‏,‏ فإنّ النّماء يقسم بين صاحب الأرض والمزارع حسب النّسبة المتّفق عليها بينهما‏.‏

الحالة الثّانية‏:‏ الفسخ قبل الإدراك‏:‏

47 - أمّا إن كان الفسخ قبل إدراك الزّرع بأن كان لا زال بقلاً‏,‏ فإنّ الزّرع يقسم بينهما حسب النّسبة المتّفق عليها بينهما كالحالة الأولى‏.‏

وذلك إذا كان الفسخ صريحاً أو دلالةً أو بانقضاء المدّة‏,‏ لأنّ الزّرع بينهما على الشّرط‏,‏ والعمل فيما بقي إلى وقت الحصاد عليهما‏,‏ وعلى المزارع أجر مثل نصف الأرض لصاحبها‏.‏

ووجه قسمة الزّرع بينهما‏:‏ أنّ انفساخ العقد يظهر أثره في المستقبل لا في الماضي‏,‏ فبقي الزّرع بينهما على ما كان قبل الانفساخ‏,‏ ووجه كون العمل عليهما معاً فيما بقي إلى وقت الحصاد أنّه عمل في مال مشترك لم يشترط العمل فيه على واحد منهما‏,‏ فوجب عليهما معاً‏.‏

أمّا وجه وجوب أجر مثل نصف الأرض على المزارع‏:‏ فهو أنّ العقد قد انفسخ وفي القلع ضرر بالمزارع‏,‏ وفي التّرك بغير أجر ضرر بصاحب الأرض فكان التّرك بنصف أجر المثل رعايةً للجانبين‏.‏

وإن أنفق أحدهما بدون إذن الآخر وبغير أمر من القاضي كان متطوّعاً ولو أراد صاحب الأرض أن يأخذ الزّرع بقلاً لم يكن له ذلك‏,‏ لأنّ فيه إضراراً بالمزارع‏.‏

أمّا لو أراد المزارع أخذه بقلاً‏,‏ فإنّه يكون لصاحب الأرض ثلاثة خيارات‏:‏

الأوّل‏:‏ قلع الزّرع وقسمته بينهما‏.‏

الثّاني‏:‏ إعطاء المزارع قيمة نصيبه من الزّرع وتركه في الأرض حتّى يبلغ الحصاد‏.‏

الثّالث‏:‏ الإنفاق على الزّرع من ماله الخاصّ‏,‏ ثمّ يرجع على المزارع بحصّته‏,‏ لأنّ في ذلك رعايةً للجانبين‏.‏

نصّ على كلّ ذلك الحنفيّة‏,‏ هذا إذا كان الفسخ صريحاً أو دلالةً أو بانقضاء المدّة‏.‏

أثر موت أحد العاقدين

إذا كان الفسخ بموت أحد المتعاقدين‏,‏ فقد فرّق الحنفيّة بين ما إذا كان الّذي مات هو صاحب الأرض‏,‏ وبين ما إذا كان هو المزارع‏.‏

أ - موت صاحب الأرض‏:‏

48 - إذا مات صاحب الأرض والزّرع ما زال بقلاً‏,‏ فإنّ الأرض تترك في يد المزارع حتّى وقت الحصاد‏,‏ ويقسم الخارج بينه وبين ورثة صاحب الأرض على حسب الشّرط المتّفق عليه بين المزارع وبين صاحب الأرض‏.‏

ووجه ذلك عندهم‏:‏ أنّ في التّرك إلى هذا الوقت نظراً ورعايةً للجانبين‏,‏ وفي القلع إضراراً بأحدهما وهو المزارع‏,‏ ويكون العمل على المزارع خاصّةً لبقاء العقد تقريراً حتّى الحصاد دفعاً للضّرر عنه‏.‏

ب - موت المزارع‏:‏

49 - أمّا إذا كان الّذي مات هو المزارع‏,‏ وكان الزّرع لا يزال بقلاً‏,‏ فإنّه يكون لورثته الحقّ في الحلول محلّ مورّثهم في العمل بنفس الشّرط الّذي تمّ بينه وبين صاحب الأرض‏,‏ سواء رضي ذلك الأخير أم أبى‏,‏ لأنّ في قلع الزّرع إضراراً بهم ولا ضرر على صاحب الأرض من ترك الزّرع إلى وقت الحصاد‏,‏ بل قد يكون في تركه فائدة له‏.‏

وإذا ترك الزّرع تحت أيدي الورثة لا أجر لهم على عملهم‏,‏ لأنّهم يعملون على حكم عقد مورّثهم تقديراً‏,‏ فكأنّه يعمل هو‏,‏ وإذا عمل هو كان عمله بدون أجر‏,‏ فكذلك يكون عملهم‏.‏ وإن أراد الورثة قلع الزّرع لم يجبروا على العمل‏,‏ لأنّ العقد ينفسخ حقيقةً‏,‏ ولكنّه بقي تقديراً باختيارهم نظراً لهم حتّى لا يضاروا من الفسخ‏.‏

فإن امتنعوا عن العمل بقي الزّرع مشتركاً بينهم وبين صاحب الأرض على الشّرط‏,‏ وكان لصاحب الأرض نفس الخيارات الثّلاثة السّابقة‏.‏ وهي‏:‏

- قسمة الزّرع بينهم بالحصص المتّفق عليها‏.‏

- إعطاء الورثة قدر حصّتهم من الزّرع بقلاً‏.‏

- الإنفاق على الزّرع من مال نفسه إلى وقت الحصاد‏,‏ ثمّ يرجع عليهم بحصّتهم‏,‏ لأنّ فيه رعايةً للجانبين‏.‏

الاختلاف حول شرط الأنصباء أو صاحب البذر

50 - إذا مات صاحب الأرض أو المزارع أو ماتا جميعاً‏,‏ فاختلف ورثتهما أو اختلف الحي منهما مع ورثة الآخر في شرط الأنصباء‏,‏ فإنّ القول يكون قول صاحب البذر مع يمينه إن كان حيّاً‏,‏ أو ورثته إن كان ميّتاً‏.‏

نصّ على ذلك الحنفيّة لأنّ الأجر يستحقّ عليه بالشّرط‏,‏ فإذا ادّعى عليه زيادةً في المشروط - وأنكرها هو - كان القول قوله مع يمينه إن كان حيّاً‏,‏ وإن كان ميّتاً فورثته يخلفونه‏,‏ فيكون القول قولهم مع أيمانهم باللّه على عملهم‏,‏ والبيّنة بيّنة الآجر‏,‏ لأنّه يثبت الزّيادة ببيّنة‏.‏

وإن اختلفوا في صاحب البذر من هو‏؟‏ كان القول قول المزارع مع يمينه إن كان حيّاً‏,‏ وقول ورثته مع أيمانهم إن كان ميّتاً‏.‏

ووجه ذلك‏:‏ أنّ الخارج في يد المزارع أو في يد ورثته‏,‏ فالقول قول ذي اليد مع اليمين عند عدم البيّنة‏,‏ والبيّنة بيّنة ربّ الأرض‏,‏ لأنّه خارج محتاج إلى الإثبات بالبيّنة‏.‏

ولو كانا حيّين فاختلفا‏,‏ فأقام صاحب الأرض البيّنة أنّه صاحب البذر‏,‏ وأنّه شرط للمزارع الثلث‏,‏ وأقام المزارع البيّنة أنّه هو صاحب البذر‏,‏ وأنّه شرط لصاحب الأرض الثلث‏,‏ فالبيّنة بيّنة ربّ الأرض‏,‏ لأنّه هو الخارج المحتاج إلى الإثبات بالبيّنة‏.‏

وإن علم أنّ البذر من قبل ربّ الأرض وأقاما البيّنة على الثلث والثلثين فالبيّنة بيّنة المزارع‏,‏ لأنّه يثبت الزّيادة ببيّنة‏.‏

التّولية في المزارعة والشّركة فيها

51 - إذا دفع شخص أرضه إلى آخر ليزرعها مدّةً معيّنةً على أنّ الخارج بينهما نصفان أو غير ذلك‏,‏ فإمّا أن يدفعها المزارع بدوره إلى آخر مزارعةً أو يشاركه في المزارعة‏,‏ وإمّا أن يكون البذر من صاحب الأرض أو يكون من المزارع وتفصيل ذلك فيما يلي‏:‏

أ - إذا كان البذر من قبل صاحب الأرض‏,‏ فإمّا أن يقول للمزارع‏:‏ اعمل برأيك‏,‏ وإمّا ألّا يقول له ذلك‏,‏ فإن قال له‏:‏ اعمل برأيك جاز له أن يعطيها لغيره مزارعةً‏,‏ وفي هذه الحالة يقسم الخارج بين صاحب الأرض والمزارع الآخر‏,‏ ولا شيء للمزارع الأوّل‏.‏

وإن لم يقل له‏:‏ اعمل فيها برأيك فإنّه لا يجوز له أن يعطيها لغيره ليزرعها‏,‏ فإذا خالف وأعطاها لآخر ليزرعها مناصفةً - وكان البذر من صاحب الأرض - كان الخارج بين المزارع الأوّل والمزارع الثّاني نصفين على حسب الشّرط‏,‏ ولصاحب الأرض أن يضمّن بذره أيّهما شاء‏,‏ وكذلك نقصان الأرض في قول عند الحنفيّة‏,‏ وفي القول الآخر يضمّن الثّاني خاصّةً‏,‏ ثمّ للثّاني أن يرجع على الأوّل بما ضمن لأنّه غرّه‏.‏

ب - إذا كان البذر من قبل صاحب الأرض‏,‏ ولم يقل له‏:‏ اعمل فيه برأيك‏,‏ فأشرك فيه رجلاً آخر ببذر من قبل ذلك الرّجل‏,‏ واشتركا على أن يعملا بالبذرين جميعاً على أنّ الخارج بينهما نصفان‏,‏ فعملا على هذا‏,‏ فجميع الخارج بينهما لكلّ منهما نصفه‏,‏ ولا شيء لصاحب الأرض منه‏,‏ وإنّما يضمن له المزارع وحده ثمن بذره‏,‏ وضمان النقصان في الأرض على الاثنين‏.‏

أمّا لو كان أمره بأن يعمل برأيه ويشارك من أحبّ - وكانت الملّة بحالها - فإنّه يجوز‏,‏ ويقسم الخارج بينهم جميعاً‏,‏ نصفه للمزارع الآخر‏,‏ والنّصف الثّاني بين الأوّل وبين ربّ الأرض لكلّ منهما الربع‏.‏

ج - إذا كان البذر من قبل العامل فدفع الأرض مزارعةً لآخر بالنّصف جازت‏,‏ سواء قال له صاحب الأرض‏:‏ اعمل برأيك أو لم يقل‏,‏ ويقسم الخارج بين صاحب الأرض والمزارع الآخر‏,‏ ولا شيء للمزارع الثّاني‏,‏ وكذلك لو كان البذر من قبل الآخر‏.‏

الوكالة في المزارعة

الوكالة في المزارعة إمّا أن تكون من صاحب الأرض‏,‏ وإمّا أن تكون من المزارع‏.‏

الحالة الأولى‏:‏ الوكالة من صاحب الأرض

52 - إذا وكّل صاحب الأرض رجلاً بأن يدفع أرضه لآخر مزارعةً‏,‏ جاز ذلك‏,‏ وكان للوكيل أن يدفعها له ويشترط أيّة حصّة من الخارج لربّ الأرض‏,‏ لأنّ الموكّل حين لم ينصّ على حصّة معيّنة يكون قد فوّض الأمر إليه في تحديد هذه الحصّة مع المزارع‏,‏ فبأيّة حصّة دفعها مزارعةً كان ممتثلاً لأمره محصّلاً لمقصوده‏.‏

ولكن لا يجوز للوكيل أن يدفعها بشيء يعلم أنّه حابى فيه بما لا يتغابن النّاس في مثله‏,‏ لأنّ مطلق التّوكيل يتقيّد بالمتعارف‏.‏

فإن دفعها مع هذه المحاباة كان الزّرع بين المزارع والوكيل على شرطهما‏,‏ ولا شيء منه لربّ الأرض‏,‏ أي أنّ الوكالة تكون باطلةً في هذه الحالة‏,‏ لأنّ الوكيل صار غاصباً للأرض بمخالفته الموكّل‏,‏ وغاصبها إذا دفعها مزارعةً كان الزّرع بينه وبين المدفوع إليه على الشّرط‏.‏

ولصاحب الأرض تضمين الوكيل أو المزارع نقصان الأرض في قول أبي يوسف الأوّل وقول محمّد‏,‏ فإن ضمّن المزارع رجع على الوكيل بما ضمن‏,‏ لأنّه مغرور من جهته‏.‏

وفي قول أبي يوسف الآخر‏:‏ يضمن المزارع خاصّةً‏,‏ لأنّه هو المتلف‏,‏ فأمّا الوكيل فغاصب والعقار عنده لا يضمن بالغصب‏,‏ ثمّ يرجع المزارع على الوكيل للغرور‏.‏

فإن كان حابى فيه بما يتغابن النّاس في مثله‏,‏ فالخارج بين المزارع وربّ الأرض على الشّرط‏,‏ والوكيل هو الّذي قبض نصيب الموكّل لأنّه هو الّذي أجّر الأرض‏.‏

وإنّما وجب نصيب ربّ الأرض بعقده فهو الّذي يلي قبضه‏,‏ وليس لربّ الأرض أن يقبضه إلّا بوكالة من الوكيل‏.‏

وإذا وكّله ولم يحدّد له مدّةً للمزارعة جاز للوكيل أن يدفعها مزارعةً سنته الأولى‏,‏ فإن دفعها أكثر من ذلك أو بعد هذه السّنة ولم يدفع هذه السّنة الأولى‏,‏ لم يجز ذلك استحساناً‏,‏ وإنّما يجوز قياساً‏.‏

وجه القياس‏:‏ أنّ التّوكيل مطلق عن الوقت ففي أيّ سنة وفي أيّ مدّة دفعها لم يكن فعله مخالفاً لما أمر به موكّله فجاز‏.‏

ووجه الاستحسان‏:‏ أنّ دفع الأرض مزارعةً يكون في وقت مخصوصٍ من السّنة عادةً والتّقييد الثّابت بالعرف في الوكالة كالثّابت بالنّصّ‏,‏ فإذا دخله التّقييد من هذا الوجه يحمل على أخصّ الخصوص‏,‏ وهو وقت الزّراعة من السّنة الأولى‏.‏

الحالة الثّانية‏:‏ التّوكيل من المزارع

53 - إذا وكّل رجل آخر بأن يأخذ له هذه الأرض مزارعةً هذه السّنة على أن يكون البذر من الموكّل كانت الوكالة جائزةً‏,‏ وتسري أحكام الوكالة المطلقة الّتي ذكرت في الحالة الأولى هنا أيضاً‏,‏ أي أنّ الوكيل يكون مقيّداً بالمتعارف عليه بين النّاس في التّعامل‏,‏ كما يكون مقيّداً بالشّرع‏,‏ فلا يتصرّف تصرفاً يضر بالموكّل‏.‏

هذا إذا كان التّوكيل مطلقاً عن القيود‏,‏ أمّا إذا قيّد الموكّل - سواء أكان صاحب الأرض أم المزارع - وكيله بقيد معيّن فإنّه يجب على الوكيل الالتزام به فإذا خالفه بطلت الوكالة إلّا إذا كانت المخالفة لمصلحة الموكّل فإنّها تكون نافذةً في حقّه‏,‏ لأنّها تعتبر موافقةً ضمنيّةً‏,‏ فالعبرة في العقود بالمعاني لا بالألفاظ والمباني‏.‏

فلو وكّل صاحب الأرض رجلاً ليدفع له أرضه لآخر مزارعةً بالثلث مثلاً‏,‏ فدفعها الوكيل له بالنّصف‏,‏ فإنّ الوكيل هنا يكون قد خالف موكّله‏,‏ ولكن العقد يكون صحيحاً‏,‏ لأنّ المخالفة لخير الموكّل ومصلحته‏,‏ فقد عقد له بالنّصف بدلاً من الثلث‏.‏

لذلك لا تبطل الوكالة إذا أجاز الموكّل تصرف وكيله المخالف‏,‏ لأنّ الإجازة اللّاحقة كالوكالة السّابقة وهذا كله طبقاً للقواعد العامّة في الوكالة‏.‏

وللتّفصيل انظر مصطلح ‏(‏ وكالة ‏)‏‏.‏

الكفالة في المزارعة

54 - إذا دفع رجل لآخر أرضاً له مزارعةً بالنّصف‏,‏ وضمن رجل آخر لربّ الأرض الزّراعة من الزّارع كان الضّمان باطلاً‏,‏ لأنّ المزارع مستأجر للأرض عامل والمزارعة لنفسه‏,‏ إلّا أن يكون العمل مستحقّاً عليه لربّ الأرض‏,‏ وإنّما يصح الضّمان بما هو مستحق على الأصيل للمضمون له‏.‏

فإذا كان الضّمان شرطاً في المزارعة كانت فاسدةً‏,‏ لأنّها استئجار للأرض‏,‏ فتبطل بالشّرط الفاسد‏,‏ وإن لم يكن شرطاً فيها جازت المزارعة وبطل الضّمان‏.‏

وإن كان البذر من قبل صاحب الأرض جاز الضّمان والمزارعة في الوجهين جميعاً‏,‏ لأنّ ربّ الأرض مستأجر للعامل‏,‏ وقد صارت إقامة العمل مستحقّةً عليه لصاحب الأرض‏,‏ وهو ممّا تجري فيه النّيابة في تسليمه‏,‏ فيصح التزامه بالكفالة شرطاً في العقد أو مقصوداً بعد عقد المزارعة‏.‏

وإن تعنّت الزّارع أخذ الكفيل بالعمل‏,‏ لأنّه التزم المطالبة بإيفاء ما كان على الأصيل وهو عمل الزّراعة‏.‏

فإذا عمل الكفيل وبلغ الزّرع الحصاد ثمّ ظهر المزارع كان الخارج بينهما على الشّرط‏,‏ لأنّ الكفيل كان نائباً عنه في إقامة العمل‏,‏ ويستحقّ الكفيل أجر مثل عمله إن كان كفله بأمره‏,‏ لأنّه التزم العمل بأمره وقد أوفاه‏,‏ فيرجع عليه بمثله‏,‏ ومثله هو أجر المثل‏.‏

ولا يجوز ضمان المزارع إذا كان رب الأرض قد اشترط عليه أن يعمل بنفسه‏,‏ لأنّ ما التزمه العامل هنا لا تجري فيه النّيابة‏,‏ وهو عمل المزارع بنفسه‏,‏ إذ ليس في وسع الكفيل إبقاء ذلك‏,‏ فيبطل الضّمان وتبطل معه المزارعة أيضاً لو كان شرطا فيها‏.‏

وإذا ضمن الكفيل لربّ الأرض حصّته من الخارج فإنّ الكفالة لا تصح سواء أكان البذر من قبل ربّ الأرض أم كان من قبل المزارع‏,‏ لأنّ نصيب صاحب الأرض من الخارج أمانة في يد المزارع‏.‏

والكفالة بالأمانة لا تصح‏,‏ وإنّما تصح بما هو مضمون التّسليم على الأصل‏,‏ ثمّ تبطل المزارعة إن كانت الكفالة شرطاً فيها‏,‏ وهذا كله قول الحنفيّة‏.‏

مزارعة الأرض العشريّة

55 - لو زارع بالأرض العشريّة فإن كان البذر من قبل العامل فعلى قياس قول أبي حنيفة‏:‏ العشر على صاحب الأرض كما في الإجارة‏.‏

وعند أبي يوسف ومحمّد يكون في الزّرع كالإجارة‏.‏

وإن كان البذر من ربّ الأرض فهو على ربّ الأرض في قولهم جميعاً‏.‏

المزارعة في الأرض المرهونة

56 - إذا رهن إنسان عند آخر أرضاً بيضاء بدين له عليه‏,‏ فلمّا قبضها المرتهن زارعه الرّاهن عليها بالنّصف والبذر من المرتهن جازت المزارعة ويقتسمان الخارج على الشّرط‏,‏ لأنّ صاحب البذر وهو الدّائن المرتهن مستأجر للأرض‏,‏ والمرتهن إذا استأجر المرهون من الرّاهن بطل عقد الرّهن‏,‏ لأنّ الإجارة ألزم من الرّهن‏,‏ وقد طرأ الاثنان في محل واحد فكان الثّاني رافعاً للأوّل‏,‏ فلهذا كان الخارج على الشّرط‏,‏ وليس للمرتهن بعد انتهاء المزارعة أن يعيدها رهناً‏.‏

وإن مات المدين الرّاهن وعليه دين لم يكن المرتهن أحقّ بها من غرمائه لبطلان عقد الرّهن‏.‏

أمّا إن كان البذر من المدين الرّاهن فإنّ المزارعة تكون جائزةً أيضاً ولكن الرّهن لا يبطل‏,‏ ويكون للمرتهن أن يعيد الأرض في الرّهن بعد الفراغ من الزّرع‏,‏ لأنّ العقد هنا يرد على عمل المزارع فلا يبطل به عقد الرّهن‏,‏ نصّ على ذلك الحنفيّة‏.‏

أخذ المأذون له الأرض مزارعةً

57 - يجوز للمأذون له أن يأخذ الأرض مزارعةً‏,‏ لأنّ فيه تحصيل الرّبح‏,‏ لأنّه إن كان البذر من قبله فهو مستأجر للأرض ببعض الخارج‏,‏ وذلك أنفع من الاستئجار بالدّراهم‏,‏ لأنّه إذا لم يحصل خارج لا يلزمه شيء بخلاف الاستئجار بالدّراهم‏.‏

وإن كان البذر من قبل صاحب الأرض فهو آجر نفسه من ربّ الأرض لعمل الزّراعة ببعض الخارج‏,‏ ولو آجر نفسه بالدّراهم جاز فكذا هذا‏.‏

اشتراط عدم بيع النّصيب أو هبته

58 - إذا اشترط في المزارعة أن لا يبيع الآخر نصيبه أو يهبه جازت المزارعة وبطل الشّرط‏,‏ لأنّه ليس لأحد العاملين فيه منفعة‏.‏

مُزَايَدَة

التّعريف

1 - المزايدة في اللغة‏:‏ التّنافس في زيادة ثمن السّلعة المعروضة للبيع‏.‏

وفي الاصطلاح هو‏:‏ أن ينادى على السّلعة ويزيد النّاس فيها بعضهم على بعض حتّى تقف على آخر زائد فيها فيأخذها‏.‏

ومعظم كلام الفقهاء ورد بشأن ‏"‏ بيع المزايدة ‏"‏ لأنّه أغلب التّصرفات الّتي تجري فيها المزايدة‏,‏ وبيع المزايدة هو - كما قال ابن عرفة - بيع التزم مشتريه ثمنه على قبول الزّيادة‏.‏

انظر مصطلح ‏(‏ سوم ف / 3 ‏)‏‏.‏

ولعقد المزايدة - أو بيع المزايدة - أسماء أخرى‏,‏ منها‏:‏ بيع من يزيد‏,‏ وبيع الدّلالة‏,‏ وبيع المناداة‏,‏ وسمّاه بعض الفقهاء ‏"‏ بيع الفقراء ‏"‏ لوقوعه على بيع أثاثهم عند الحاجة‏,‏ وبيع من كسدت بضاعته لوقوعه على بيع السّلع غير الرّائجة‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - النّجش‏:‏

2 - النّجش لغةً‏:‏ الإثارة‏.‏

واصطلاحاً‏:‏ الزّيادة في ثمن السّلعة ممّن لا يريد شراءها ليغرّر بغيره‏,‏ وذلك لما في النّجش من إثارة رغبة الغير في السّلعة ولو بثمن أكثر ممّا يقدّره المشتري‏.‏

فالنّجش يشترك مع المزايدة في الصورة بوقوع الزّيادة من النّاجش‏,‏ ويختلف عنها في انتفاء قصد النّاجش الشّراء‏.‏

ب - البيع على بيع الغير‏:‏

3 - البيع على بيع الغير هو أن يعرض البائع سلعته على من أراد شراء سلعة غيره وقد ركن إليه‏,‏ ويتحقّق بأن يقول لمن اشترى سلعةً وهو في زمن خيار المجلس أو خيار الشّرط‏:‏ افسخ بيعك وأنا أبيعك مثل السّلعة بثمن أقلّ‏,‏ فالبيع على بيع الغير يختلف عن المزايدة بأنّه يقع بعد الركون لإتمام الصّفقة ولم يبق إلّا العقد والرّضا‏.‏

أمّا المزايدة فهي‏:‏ عروض للشّراء تقع قبل الركون بين مالك السّلعة ومن يرغب في شرائها أوّلاً‏.‏

ج - السّوم على سوم الغير‏:‏

4 - المراد من السّوم على سوم الغير أن يتّفق صاحب السّلعة والرّاغب فيها على البيع‏,‏ ولم يعقداه‏,‏ فيقول آخر لصاحب السّلعة‏:‏ أنا أشتريها بأكثر‏,‏ أو يقول للرّاغب في السّلعة‏:‏ أنا أبيعك خيراً منها بأرخص‏,‏ فالسّوم على سوم الغير يختلف عن المزايدة أيضاً في وقوعه بعد الركون خلافاً للمزايدة‏.‏

الحكم التّكليفي‏,‏ وحكمة التّشريع

5 - ذهب جمهور الفقهاء إلى إباحة بيع المزايدة‏,‏ واستدلوا لذلك بفعل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم‏,‏ وهو أنّه « باع قدحاً وحلساً بيع من يزيد وقال من يشتري هذا الحلس والقدح فقال رجل أخذتهما بدرهم فقال النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم من يزيد على درهم من يزيد على درهم فأعطاه رجل درهمين فباعه منه »‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ وهذا أيضاً إجماع المسلمين يبيعون في أسواقهم بالمزايدة‏.‏

وذهب النّخعي إلى كراهته مطلقاً‏,‏ وذهب الحسن البصري وابن سيرين والأوزاعي وإسحاق بن راهويه إلى كراهته فيما عدا بيع الغنائم والمواريث‏,‏ واستدلوا بحديث سفيان بن وهب الخولانيّ رضي اللّه عنه قال‏:‏ « سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ينهى عن بيع المزايدة »‏,‏ وبحديث ابن عمر رضي اللّه عنهما‏:‏ « نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يبيع أحدكم على بيع أحد حتّى يذر إلّا الغنائم والمواريث »‏.‏

وقال عطاء‏:‏ أدركت النّاس لا يرون بأساً في بيع الغنائم فيمن يزيد‏.‏

وصرّح الحنابلة باستحباب المزايدة في بيع مال المفلس لما فيها من توقّع زيادة الثّمن وتطييب نفوس الغرماء‏,‏ ويستحب للحاكم أن يحضرهم فيه‏.‏

ركن المزايدة - كيفيّة الإيجاب والقبول في المزايدة

6 - من المقرّر أنّ ركن البيع هو الصّيغة - كما قال الحنفيّة - أو هو الصّيغة مع الأطراف ‏"‏ العاقدين والمحلّ‏:‏ المبيع والثّمن ‏"‏ كما قال الجمهور ثمّ إنّ الصّيغة هي الإيجاب والقبول‏.‏ وفي المزايدة إذا نادى الدّلّال على السّلعة فإنّ ما يصدر من كل من الحاضرين هو إيجاب عند الحنفيّة وهي إيجابات متعدّدة‏,‏ والقبول هو موافقة البائع - أو الدّلّال المفوّض منه - على البيع بثمن ما‏,‏ وأمّا عند الجمهور فالإيجاب هو موافقة البائع والدّلّال وقد تأخّر وتقدّم عليه القبول فهو كقوله بعنيه بكذا‏.‏

إلزام جميع المشاركين في المزايدة بالشّراء - في مجلس المناداة - ولو زيد عليهم

7 - صرّح ابن رشد الجد‏,‏ وقال‏:‏ إنّه ظاهر المذهب - أي مذهب المالكيّة - ونقله عن أبي جعفر بن رزق أيضاً بأنّ كلّ من زاد في السّلعة لزمته بما زاد إن أراد صاحبها أن يمضيها له بما أعطى فيها ما لم يستردّ سلعته فيبيع بعدها أخرى أو يمسكها حتّى ينقضي مجلس المناداة‏.‏

وقد علّل ابن رشد ذلك بأنّ البائع قد لا يحب مماطلة الّذي زاد على من قبله‏,‏ فليس طلب الزّيادة بها وإن وجدها إبراءً لمن قبله‏,‏ وربط الدسوقي ذلك بالعرف فقال‏:‏ وللبائع إلزام المشتري في المزايدة ولو طال الزّمان أو انفضّ المجلس حيث لم يجر العرف بعدم إلزامه‏,‏ كما عندنا بمصر أنّ الرّجل لو زاد في السّلعة وأعرض عنه صاحبها أو انفضّ المجلس فإنّه لا يلزمه بها وهذا ما لم تكن السّلعة بيد المشتري‏,‏ وإلّا كان لربّها إلزامه‏,‏ وذكر ابن عرفة أنّ العادة بتونس في أيّامه عدم اللزوم‏,‏ وذكر الحطّاب أنّ العرف بمكّة في زمنه جرى على عدم الإلزام أيضاً‏.‏

إلزام جميع المشاركين في المزايدة بالشّراء بعد مجلس المناداة

8 - ذهب المالكيّة إلى أنّه إذا كان العرف اللزوم بعد الافتراق‏,‏ أو اشترط ذلك البائع فيلزم المشتري البيع بعد الافتراق في مسألة العرف بمقدار ما جرى به العرف‏,‏ وفي مسألة الشّرط في الأيّام المشروطة‏,‏ وبعدها بقرب ذلك على مذهب المدوّنة‏,‏ ويتأكّد هذا إذا حصل الاشتراط بأن يزيد على السّلعة أيّاماً‏.‏

وقد صرّح الزرقانيّ بأنّ ذلك مخالف للبيع المطلق حيث لا يلزم البيع فيه بتراخي القبول عن الإيجاب حتّى انقضى المجلس‏,‏ أو بحصول فاصل يقتضي الإعراض عمّا كان المتبايعان فيه إلّا بيع المزايدة‏,‏ فللبائع أن يلزم السّلعة لمن شاء حيث اشترط البائع ذلك أو جرى به عرف إمساكها حتّى انقضى مجلس المناداة‏,‏ قال المازري‏:‏ بعض القضاة ألزم بعض أهل الأسواق في بيع المزايدة بعد الافتراق‏,‏ مع أنّ عادتهم الافتراق على غير إيجاب اغتراراً بظاهر ابن حبيب وحكاية غيره‏,‏ فنهيته عن هذا لأجل مقتضى عوائدهم‏,‏ وإذا اشترط المشتري أن لا يلتزم البيع إلّا ما دام في المجلس فله شرطه‏,‏ ولو كان العرف بخلافه‏,‏ لتقدم الشّرط عليه‏.‏

خيار الرجوع عن الإيجاب في المزايدة

9 - الرجوع عن المزايدة إمّا أن يقع قبل زيادة آخر على ما دفعه‏,‏ وإمّا أن يقع بعدها‏,‏ فإن وقع الرجوع قبل زيادة آخر على ما دفعه من ثمن فإنّه لا يختلف بيع المزايدة عن غيره في مسألة الرجوع عن الإيجاب‏,‏ من حيث إنّ للموجب حقّ الرجوع قبل أن يقع القبول لإيجابه‏,‏ ولا يرد هنا الخلاف المنقول عن بعض المالكيّة فيما لو ربط الإيجاب بوقت‏,‏ وأنّه حينئذ يتقيّد بوقته فلا يملك الموجب الرجوع‏,‏ وذلك لأنّ مذهب المالكيّة في لزوم المزايدة لجميع المشتركين فيها يغني عن مقتضى هذا القول‏.‏

خيار المجلس في المزايدة

10 - قال الحطّاب‏:‏ جرت العادة بمكّة أنّ من رجع بعد الزّيادة لا يلزمه شيء ما دام في المجلس‏.‏

الزّيادة بعد بتّ البيع لأحد المشاركين في المزايدة

11 - لا خلاف في أنّه تجوز الزّيادة في السّلعة إذا توقّف المالك أو الدّلّال عن النّداء - لأنّه أعرض عن البيع - لعدم وصول السّلعة إلى قيمتها وكفّ الحاضرين عن الزّيادة‏.‏

وأمّا في حالة الركون فقد ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه إذا كان صاحب المال ينادي على سلعته فطلبها إنسان بثمن‏,‏ فكفّ عن النّداء وركن إلى ما طلب منه ذلك الرّجل‏,‏ فليس للغير أن يزيد في ذلك‏,‏ وهذا استيام على سوم الغير‏,‏ وإن لم يكفّ عن النّداء فلا بأس لغيره أن يزيد‏.‏

وإن كان الدّلّال هو الّذي ينادي على السّلعة وطلبها إنسان بثمن فقال الدّلّال‏:‏ حتّى أسأل المالك فلا بأس للغير أن يزيد‏,‏ فإن أخبر الدّلّال المالك فقال‏:‏ بعه واقبض الثّمن‏,‏ فليس لأحد أن يزيد بعد ذلك‏,‏ قال الحطّاب‏:‏ وسواء ترك السّمسار الثّوب عند التّاجر أو كان في يده وجاء به إلى ربّه فقال له ربه‏:‏ بعه‏,‏ ثمّ زاد فيه تاجر آخر أنّه للأوّل‏,‏ وأمّا لو قال له رب الثّوب لمّا شاوره‏:‏ اعمل فيه برأيك فرجع السّمسار ونوى أن يبيعه من التّاجر فزاد فيه تاجر آخر‏,‏ فإنّه يعمل فيه برأيه ويقبل الزّيادة إن شاء ولا يلزم البيع بالنّيّة‏.‏

واستظهر الشّرواني من الشّافعيّة‏:‏ أنّه لا تحرم الزّيادة حيث لم يعيّن الدّلّال المشتري‏,‏ ثمّ قال‏:‏ بل لا يبعد عدم التّحريم وإن عيّنه‏.‏

زيادة اثنين مبلغاً متماثلاً

12 - ذهب ابن القاسم من المالكيّة إلى أنّه لو زاد اثنان مبلغاً متماثلاً ولم يزد عليهما غيرهما فإنّهما يكونان شريكين في السّلعة‏,‏ وقال عيسى‏:‏ هي للأوّل‏,‏ ولا أرى للصّائح أن يقبل من أحد مثل الثّمن الّذي قد أعطاه غيره إلّا أن يكونا جميعاً قد أعطياه فيه ديناراً معاً فهما فيه شريكان‏.‏

خيار العيب في بيع المزايدة

13 - ذهب الفقهاء إلى أنّ خيار العيب يثبت بحكم الشّرع ولو لم يشترطه المشتري لأنّ الأصل في البيع السّلامة‏.‏

وبيع المزايدة من البيوع الّتي يثبت فيها خيار العيب كبقيّة البيوع‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في ‏(‏ خيار العيب ف / 20 - 25 ‏)‏‏.‏

المطالب بخيار العيب في بيع المزايدة

14 - نصّ المالكيّة على أنّ الرجوع بخيار العيب يكون على أصحاب السّلع‏,‏ جاء في المدوّنة‏:‏ أفرأيت الّذي يبيع فيمن يزيد يستأجر على الصّياح‏,‏ فيوجد من ذلك مسروق أو خرق أو عيب‏,‏ قال‏:‏ ليس عليه ضمان‏,‏ وإنّما هو أجير آجر نفسه وبدنه‏,‏ وإنّما وقعت العهدة على أرباب السّلع فليتبعوهم‏,‏ فإن وجدوا أربابها وإلّا لم يكن عليه تباعة‏.‏

دعوى الغبن في المزايدة

15 - مشهور المذهب عند المالكيّة أنّه لا حقّ لمدّعي الغبن في الرجوع على البائع ولو كان الغبن خارجاً عن المعتاد إلّا إذا توافرت ثلاثة شروطٍ هي‏:‏

أ - أن يكون المغبون جاهلاً بثمن المثل في السوق لما باعه أو اشتراه‏,‏ أمّا العارف بالقيم فلا يختلف في إمضائه عليه لأنّه - كما قال المازري - إنّما فعله لغرض‏,‏ وأقل مراتبه أن يكون كالواهب لماله‏.‏

ب - أن يدّعي قبل مضيّ سنة من يوم العقد‏,‏ وقد نصّ الوزّاني في إحدى فتاويه على عدم التّفريق بين بيع المزايدة وغيره‏,‏ وأيّد فتواه بكلام نقله عن ابن عرفة في ذلك‏,‏ وذكر التّسولي أنّه لا يسمع الادّعاء بالغبن في بيع المزايدة‏,‏ لما يتوافر فيه من الإشهار وحضور المتزايدين‏,‏ قال ابن عات من المالكيّة‏:‏ إن أكرى ناظر الحبس ‏"‏ الوقف ‏"‏ على يد القاضي ريع الحبس بعد النّداء عليه والاستقصاء ثمّ جاءت زيادة لم يكن له نقض الكراء‏,‏ ولا قبول الزّيادة إلّا أن يثبت بالبيّنة أنّ في الكراء غبناً على الحبس فتقبل الزّيادة ولو ممّن كان حاضراً‏,‏ وإذا حصل التّناكر في دعوى الجهل فتقبل بيّنة من يدّعي المعرفة‏,‏ لأنّها بيّنة ناقلة عن الأصل الّذي هو الجهل فتقدّم‏.‏

ج - أن يكون الغبن فاحشاً بحيث يزيد على ثمن المثل قدر الثلث فأكثر‏.‏

ولم نجد لغير المالكيّة أنّ للغبن وحده تأثيراً ما لم يقترن به التّغرير‏,‏ وهو لا يختلف فيه الحكم بين المزايدة وغيرها عندهم‏.‏

النّجش في المزايدة

16 - النّجش في بيع المزايدة - كالنّجش في غيره من البيوع‏,‏ حرام عند جمهور الفقهاء لثبوت النّهي عنه‏,‏ لما فيه من خديعة المسلم‏,‏ وهو مكروهٌ تحريماً عند الحنفيّة إذا بلغت السّلعة قيمتها‏.‏

وفي حكمه التّكليفيّ وحكمه الوضعيّ تفصيل ينظر في مصطلح ‏(‏ بيع منهي عنه ف / 128 ‏)‏‏.‏

مشاركة الدّلّال في الشّراء مع بعض من يزيد دون علم البائع

17 - قال ابن تيميّة‏:‏ لا يجوز للدّلّال الّذي هو وكيل البائع في المناداة أن يكون شريكاً لمن يزيد بغير علم البائع‏,‏ فإنّ هذا يكون هو الّذي يزيد ويشتري في المعنى‏,‏ وهذا خيانة للبائع‏,‏ ومن عمل مثل هذا لم يجب أن يزيد عليه أحد‏,‏ ولم ينصح للبائع في طلب الزّيادة وإنهاء المناداة‏,‏ ثمّ إنّ هذا يئول إلى بيع الوكيل من نفسه ما وكّل ببيعه‏,‏ وقد اختلف فيها الفقهاء فمنعها الحنفيّة والمالكيّة‏,‏ وأجازها الشّافعيّة بإذن المالك‏,‏ لأنّ العرف في البيع أن يوجب لغيره فحمل الوكالة عليه‏,‏ ولأنّ إذن الموكّل يقتضي البيع ممّن يستقصي في الثّمن عليه‏,‏ وفي البيع لنفسه لا يستقصي في الثّمن فلم يدخل في الإذن وصرّح ابن عبد البرّ باستثناء ما لو اشترى بعض ما وكّل ببيعه بسعره‏,‏ وقال ابن قدامة‏:‏ ولا يجوز للوكيل أن يبيع لنفسه‏,‏ وعن أحمد رواية أنّه يجوز إذا زاد على مبلغ ثمنه في النّداء أو وكّل من يبيع وكان هو أحد المشترين وقال ابن تيميّة أيضاً‏:‏ إذا تواطأ جماعة من الدّلّالين على أن يشتركوا في شراء ما يبيعونه‏,‏ فإنّ على وليّ الأمر أن يعزّرهم تعزيراً بليغاً يردعهم وأمثالهم عن هذه الخيانة‏,‏ ومن تعزيرهم أن يمنعوا من مهنة الدّلالة في السوق حتّى تظهر توبتهم‏.‏

التّواطؤ على ترك المزايدة بعد سعر محدّد

18 - ذهب المالكيّة وتابعهم ابن تيميّة إلى أنّ التّواطؤ على ترك المزايدة إن تمّ بين أحد الحاضرين وآخر‏,‏ بأن يسأله ترك المزايدة فهو لا بأس به ولو كان ذلك في نظير شيء من المال يجعله لمن كفّ عن الزّيادة‏,‏ كما لو قال له‏:‏ كفّ عن الزّيادة ولك دينار أو قال له‏:‏ كفّ عن الزّيادة ونحن شريكان في السّلعة‏,‏ وذلك لأنّ باب المزايدة مفتوح وإنّما ترك أحدهما مزايدة الآخر‏.‏

أمّا إن تمّ التّواطؤُ بين جميع الحاضرين على الكفّ عن الزّيادة فلا يجوز لما فيه من الضّرر على البائع‏.‏ ومثل تواطؤ الجميع تصرف من حكمهم كمجموعة متحكّمة في سوق المزايدة أو شيخ السوق‏.‏

والهدف من التّواطؤ قد يكون الاشتراك بينهم في تملك السّلعة المبيعة بأقلّ من قيمتها لاقتسامها بينهم‏,‏ وقد يكون بتخصيص سلعة لكلّ واحد منهم‏,‏ ليشتريها بأقلّ من قيمتها دون منازعة الآخرين له‏,‏ وفي الحالتين ضرر بالبائع وبخس لسلعته قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ ‏}‏ فإن وقع التّواطؤُ الممنوع خيّر البائع بين الرّدّ والإمضاء‏,‏ فإن هلكت السّلعة فله الأكثر من الثّمن والقيمة‏.‏

مَزْبَلة

انظر‏:‏ زبل‏.‏

مُزْدَلِفَة

التّعريف

1 - قال أهل اللغة‏:‏ الزلفة والزلفى‏:‏ القربة والحظوة‏,‏ وأزلفه‏:‏ قرّبه‏,‏ وفي الحديث‏:‏

« ازدلف إلى اللّه بركعتين » ومنه‏:‏ مزدلفة سمّيت بذلك لاقترابها إلى عرفات‏.‏

وقيل‏:‏ سمّيت بذلك لاجتماع النّاس بها‏,‏ من قولهم‏:‏ أزلفت الشّيء جمعته‏.‏

وحدها في الاصطلاح‏:‏ هي مكان بين مأزمي عرفة ووادي محسّر‏,‏ وبعضهم يقول‏:‏ ما بين مأزمي عرفة إلى قرن محسّر‏,‏ فما على يمين ذلك وشماله من الشّعاب فهو منىً‏.‏

قال الإمام النّووي‏:‏ قال أصحابنا‏:‏ المزدلفة ما بين وادي محسّر ومأزمي عرفة‏,‏ وليس الحدّان منها‏,‏ ويدخل في المزدلفة جميع تلك الشّعاب القوابل والظّواهر والجبال الدّاخلة في الحدّ المذكور‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - منىً‏:‏

2 - منىً‏:‏ موضع قرب مكّة‏,‏ ويقال‏:‏ بينه وبين مكّة المكرّمة ثلاثة أميال‏,‏ ينزله الحجّاج أيّام التّشريق‏,‏ وسمّي منىً لما يمنى به من الدّماء أي يراق‏,‏ وأمنى الرّجل أو الحاج بالألف‏:‏ أتى منىً‏.‏

والصّلة بين المزدلفة وبين منىً أنّ كلاً منهما من مناسك الحجّ‏.‏

ب - المشعر الحرام‏:‏

3 - المَشْعر‏,‏ بفتح الميم في المشهور وحكي كسرها‏:‏ جبل صغير آخر مزدلفة‏,‏ اسمه قزح بضمّ القاف وبالزّاي‏.‏

وسمّي مشعراً‏:‏ لما فيه من الشّعائر وهي معالم الدّين وطاعة اللّه تعالى‏,‏ ووصف بالحرام لأنّه يحرم فيه الصّيد وغيره‏,‏ ويجوز أن يكون معناه ذو الحرمة‏.‏

والصّلة بينه وبين مزدلفة أنّه جزء منها‏,‏ أو جميع المزدلفة وعلى هذا فهو مرادف للمزدلفة‏.‏

الأحكام المتعلّقة بمزدلفة

المبيت في مزدلفة للحاجّ

4 - اختلف الفقهاء في حكم المبيت في مزدلفة للحاجّ ليلة النّحر‏.‏

فذهب جماعة إلى أنّه فرض‏,‏ ومن هؤُلاء من أئمّة التّابعين‏:‏ علقمة والأسود والشّعبي والنّخعيّ‏,‏ والحسن البصري رحمهم اللّه‏,‏ كما ذهب إليه من أئمّة المذهب الشّافعيّ‏:‏ أبو عبد الرّحمن ابن بنت الشّافعيّ‏,‏ وأبو بكر بن خزيمة‏,‏ والسبكي قالوا‏:‏ المبيت بمزدلفة فرض أو ركن لا يصح الحج إلّا به‏,‏ كالوقوف بعرفة‏.‏

واحتجوا بالحديث المرويّ عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال‏:‏ « من فاته المبيت بالمزدلفة فقد فاته الحج »‏.‏

وذهب الشّافعيّة في الأصحّ‏,‏ والحنابلة إلى أنّه واجب وليس بركن‏,‏ فلو تركه الحاج صحّ حجه وعليه دم‏,‏ لحديث‏:‏ « الحج يوم عرفة من جاء قبل الصبح من ليلة جمع فتمّ حجه »‏,‏ يعني‏:‏ من جاء عرفة‏.‏

5 - ويحصل المبيت بالمزدلفة بالحضور في أيّة بقعة كانت من مزدلفة‏,‏ لحديث‏:‏ « مزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن محسّر »‏.‏

كما أنّ هذا المبيت يحصل عند الشّافعيّة والحنابلة بالحضور في مزدلفة في ساعة من النّصف الثّاني من ليلة النّحر‏,‏ وأنّه لو دفع من مزدلفة بعد نصف اللّيل أجزأه وحصل المبيت ولا دم عليه‏,‏ سواء كان هذا الدّفع لعذر أو لغير عذر‏,‏ وأنّه لو دفع من مزدلفة قبل نصف اللّيل ولو بيسير ولم يعد إليها فقد ترك المبيت‏,‏ فإن عاد قبل طلوع الفجر أجزأه المبيت ولا شيء عليه‏,‏ ومن لم يوافق مزدلفة إلّا في النّصف الأخير من اللّيل فلا شيء عليه‏.‏

ووجوب الدّم بترك المبيت خاصٌّ فيمن تركه بلا عذر‏,‏ أمّا من تركه لعذر كمن انتهى إلى عرفات ليلة النّحر واشتغل بالوقوف بعرفة عن المبيت بالمزدلفة فلا شيء عليه‏,‏ وكالمرأة لو خافت طروء الحيض أو النّفاس‏,‏ فبادرت إلى مكّة بالطّواف‏,‏ وكمن أفاض من عرفات إلى مكّة وطاف للركن ولم يمكنه الدّفع إلى المزدلفة بلا مشقّة ففاته المبيت وكالرعاة والسقاة فلا دم عليهم لترك المبيت‏,‏ لأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ رخّص للرعاة في ترك المبيت لحديث عديٍّ رضي اللّه عنه‏:‏ « أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة خارجين عن منىً »‏,‏ « وأنّ العبّاس بن عبد المطّلب استأذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يبيت بمكّة ليالي منىً من أجل سقايته فأذن له »‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ يندب المبيت بمزدلفة بقدر حطّ الرّحال‏,‏ سواء حطّت بالفعل أم لا‏,‏ وإن لم ينزل فيها بهذا القدر حتّى طلع الفجر بلا عذر وجب عليه دم‏,‏ أمّا إن تركه بعذر فلا شيء عليه‏.‏

وعند الحنفيّة‏:‏ المبيت في مزدلفة ليلة النّحر سنّة مؤكّدة إلى الفجر‏,‏ لا واجبة‏.‏

قال الكاساني‏:‏ والسنّة أن يبيت ليلة النّحر بمزدلفة والبيتوتة ليست بواجبة إنّما الواجب هو الوقوف‏,‏ والأفضل أن يكون وقوفه بعد الصّلاة‏,‏ فيصلّي صلاة الفجر بغلس‏,‏ ثمّ يقف عند المشعر الحرام فيدعو اللّه تعالى ويسأله حوائجه إلى أن يسفر‏,‏ ثمّ يفيض منها قبل طلوع الشّمس إلى منىً‏.‏

تقديم النّساء والضّعفة إلى منىً

6 - ذهب الفقهاء إلى أنّه من السنّة تقديم الضعفاء من النّساء وغيرهنّ من مزدلفة إلى منىً قبل طلوع الفجر بعد نصف اللّيل ليرموا جمرة العقبة قبل زحمة النّاس‏,‏ لحديث عائشة رضي اللّه عنها قالت‏:‏ « استأذنت سودة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ليلة المزدلفة تدفع قبله وقبل حطمة النّاس وكانت امرأةً ثبطةً فأذن لها »‏,‏ وعن ابن عبّاس رضي اللّه عنهما قال‏:‏ « أنا ممّن قدّم النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم ليلة المزدلفة في ضعفة أهله »‏.‏

الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء في المزدلفة

7 - ذهب الفقهاء إلى مشروعيّة الجمع بين المغرب والعشاء للحاجّ في مزدلفة ليلة النّحر إلّا أنّهم اختلفوا في بعض التّفاصيل‏.‏

فذهب الحنفيّة إلى أنّ الحاجّ يصلّي المغرب والعشاء في مزدلفة جمعاً بأذان وإقامة‏,‏ لأنّ العشاء في وقتها فلا تحتاج للإعلام فيقتصر على إقامة واحدة‏,‏ ولا يشترط لهذا الجمع عندهم جماعة‏,‏ فلو صلّاهما منفرداً جاز ولكنّ الجماعة فيه سنّة‏.‏ وللجمع بمزدلفة عندهم شروط هي‏:‏

أ - الإحرام بالحجّ‏.‏

ب - تقديم الوقوف بعرفة عليه‏.‏

ج - الزّمان‏,‏ والمكان‏,‏ والوقت‏,‏ فالزّمان ليلة النّحر‏,‏ والمكان مزدلفة‏,‏ والوقت وقت العشاء ما لم يطلع الفجر‏,‏ فلا يجوز هذا الجمع لغير المحرم بالحجّ‏,‏ ولا في غير الزّمان والمكان والوقت المذكور‏.‏

فلو صلّى المغرب والعشاء في عرفات أو في الطّريق أعادهما‏,‏ لحديث أسامة بن زيد رضي اللّه عنهما قال‏:‏ « دفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من عرفة فنزل الشّعب فبال ثمّ توضّأ ولم يسبغ الوضوء فقلت له الصّلاة فقال الصّلاة أمامك فجاء المزدلفة فتوضّأ فأسبغ ثمّ أقيمت الصّلاة فصلّى المغرب ثمّ أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثمّ أقيمت الصّلاة فصلّى ولم يصلّ بينهما »‏.‏

قال الشّهاوي من الحنفيّة‏:‏ هذا فيما إذا ذهب إلى المزدلفة من طريقها‏,‏ أمّا إذا ذهب إلى مكّة المكرّمة من غير طريق المزدلفة جاز له أن يصلّي المغرب في الطّريق‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إذا غربت الشّمس يوم عرفة دفع الإمام والنّاس معه إلى المزدلفة وجمع الإمام والنّاس معه المغرب والعشاء بمزدلفة جمع تأخير وقصروا العشاء‏,‏ إلّا أهل المزدلفة فيتمونها مع جمعها بالمغرب‏,‏ والمذهب أنّ هذا كلّه سنّة إن وقف مع الإمام‏,‏ فإن لم يقف معه بأن لم يقف أصلاً‏,‏ أو وقف وحده فلا يجمع‏,‏ لا بالمزدلفة ولا بغيرها ويصلّي كلّ صلاة في مختارها من غير جمع‏.‏

وإن عجز من وقف بعرفة مع الإمام عن السّير معه‏,‏ لضعفه أو ضعف دابّته‏,‏ فيجمع بينهما بعد مغيب الشّفق الأحمر في مزدلفة أو قبلها إن كان وقف بعرفة ونفر منها مع الإمام وتأخّر عنه لعذر به‏.‏

وإن قدّم العشاءين على الشّفق الأحمر‏,‏ أو على النزول بمزدلفة أعادهما ندباً إن صلّاهما بعد الشّفق قبل وصوله مزدلفة‏,‏ ووجوباً إن قدّمهما على الشّفق بالنّسبة لصلاة العشاء‏,‏ لأنّها باطلة‏,‏ لصلاتها قبل وقتها‏,‏ أمّا المغرب فيعيدها ندباً إن بقي وقتها‏.‏

وذكر ابن حبيب من المالكيّة‏:‏ أنّه إذا صلّى في المزدلفة فلا يعيد‏,‏ وإنّما الإعادة عنده لمن صلّى قبل المزدلفة‏,‏ لقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « الصّلاة أمامك »‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ السنّة أن يؤخّر الحجّاج صلاة المغرب ويجمعوا بينها وبين العشاء في المزدلفة في وقت العشاء ما لم يخش الحاج فوات وقت الاختيار للعشاء‏,‏ وهو ثلث اللّيل في أصحّ القولين‏,‏ ونصفه في القول الآخر‏.‏

وجواز الجمع بينهما بمزدلفة في وقت العشاء للحاجّ المسافر دون غيره‏,‏ لأنّ الجمع عندهم بسبب السّفر لا بسبب النسك‏.‏

قالوا‏:‏ والسنّة إذا وصلوا مزدلفة أن يصلوا قبل حطّ الرّحال وينيخ كل إنسان جمله ويعقله‏,‏ ثمّ يصلون‏,‏ لحديث أسامة بن زيد رضي اللّه عنهما « أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لمّا جاء المزدلفة توضّأ ثمّ أقيمت الصّلاة فصلّى المغرب ثمّ أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثمّ أقيمت العشاء فصلّاها ولم يصلّ بينهما شيئاً »‏.‏

قال الشّافعي‏:‏ ولو ترك الجمع بينهما وصلّى كل واحد في وقتها أو جمع بينهما في وقت المغرب أو جمع وحده لا مع الإمام‏,‏ أو صلّى إحداهما مع الإمام والأخرى وحده جامعاً بينهما‏,‏ أو صلّاهما في عرفات‏,‏ أو في الطّريق قبل المزدلفة جاز‏,‏ وفاتته الفضيلة‏.‏

وإن جمع بينهما في المزدلفة في وقت العشاء أقام لكلّ واحدة منهما‏,‏ ولا يؤذّن للثّانية‏,‏ ويؤذّن للأولى في الأصحّ‏,‏ لحديث جابر رضي اللّه عنه‏:‏ « أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أتى المزدلفة فصلّى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبّح بينهما شيئاً ثمّ اضطجع حتّى طلع الفجر وصلّى الفجر »‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ السنّة لمن دفع من عرفة أن لا يصلّي المغرب حتّى يصل مزدلفة‏,‏ فيجمع بين المغرب والعشاء ويقيم لكلّ صلاة إقامةً لحديث أسامة بن زيد رضي اللّه عنهما قال‏:‏

« دفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من عرفة حتّى إذا كان بالشّعب نزل فبال ثمّ توضّأ فقلت له الصّلاة يا رسول اللّه قال الصّلاة أمامك فركب فلمّا جاء مزدلفة نزل فتوضّأ فأسبغ الوضوء ثمّ أقيمت الصّلاة فصلّى المغرب ثمّ أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثمّ أقيمت الصّلاة فصلّى ولم يصلّ بينهما »‏.‏

وروي هذا القول عن ابن عمر رضي اللّه عنهما‏.‏

وإن جمع بينهما بإقامة الأولى فلا بأس‏,‏ يروى ذلك عن ابن عمر أيضاً‏,‏ وبه قال الثّوري‏,‏ لما روى ابن عمر قال‏:‏ « جمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بين المغرب والعشاء بجمع صلّى المغرب ثلاثاً والعشاء ركعتين بإقامة واحدة »‏,‏ وإن أذّن للأولى وأقام ثمّ أقام للثّانية فحسن‏,‏ فإنّه يروى في حديث جابر‏,‏ وهو متضمّن للزّيادة‏,‏ وهو معتبر بسائر الفوائت والمجموعات‏,‏ وهو قول ابن المنذر وأبي ثور‏,‏ والّذي اختار الخرقيّ إقامةً لكلّ صلاة من غير أذان‏,‏ قال ابن المنذر‏:‏ وهو آخر قولي أحمد‏,‏ لأنّه رواية أسامة رضي اللّه عنه‏,‏ وهو أعلم بحال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فإنّه كان رديفه‏,‏ وقد اتّفق هو وجابر رضي اللّه عنهما في حديثهما على إقامة لكلّ صلاة‏,‏ واتّفق أسامة وابن عمر رضي اللّه عنهم على الصّلاة بغير أذان‏.‏

الوقوف في المشعر الحرام والدعاء فيه

8 - يرى جمهور الفقهاء أنّه يستحب للحاجّ بعد بياته بمزدلفة في ليلة النّحر أن يصلّي صلاة الفجر مغلّساً في أوّل وقتها‏,‏ لحديث جابر رضي اللّه عنه في صفة حجّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وفيه‏:‏ « حتّى أتى المزدلفة فصلّى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبّح بينهما شيئاً ثمّ اضطجع حتّى طلع الفجر وصلّى الفجر حين تبيّن له الصبح بأذان وإقامة ثمّ ركب حتّى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا اللّه تعالى وكبّره وهلّله فلم يزل واقفاً حتّى أسفر جداً فدفع قبل أن تطلع الشّمس »‏.‏

ثمّ يأتي الحاج المشعر الحرام ‏"‏ جبل قزح ‏"‏ ويقف عنده فيدعو اللّه سبحانه وتعالى ويحمده ويكبّره ويهلّله‏,‏ ويوحّده‏,‏ ويكثر من التّلبية‏,‏ ومن الذّكر‏,‏ لما رواه جابر رضي اللّه عنه‏:‏ « أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أتى المشعر الحرام فرقي عليه فدعا اللّه وهلّله وكبّره ووحّده »‏.‏

ويدعو اللّه بما أحبّ‏,‏ ويختار الدّعوات الجامعة والأمور المبهمة ويكرّر دعواته‏,‏ ويستحب أن يكون من دعائه‏:‏ اللّهمّ كما وقفتنا فيه وأريتنا إيّاه فوفّقنا بذكرك كما هديتنا واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحقّ ‏{‏ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ، ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ‏}‏‏.‏

ويكثر من قوله‏:‏ ‏"‏ اللّهمّ آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النّار ‏"‏‏,‏ ثمّ لا يزال يدعو مستقبلاً القبلة رافعاً يديه إلى السّماء إلى أن يسفر جداً‏,‏ لحديث جابر رضي اللّه عنه‏:‏ « فلم يزل واقفاً حتّى أسفر جداً »‏.‏

9 - ولو فاتت سنّة الوقوف عند المشعر الحرام لم تجبر بدم عند الجمهور كسائر الهيئات والسنن‏,‏ ولا إثم على الحاجّ بهذا التّرك‏,‏ وإنّما فاتته الفضيلة‏.‏

ولا تحصل هذه الفضيلة بالوقوف فيه قبل صلاة الصبح‏,‏ لأنّه خلاف السنّة‏.‏

10 - والسنّة الدّفع من المشعر الحرام إلى منىً قبل طلوع الشّمس ويكره تأخير السّير منه حتّى تطلع الشّمس‏,‏ لحديث جابر رضي اللّه عنه‏:‏ « أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لم يزل واقفاً حتّى أسفر جداً فدفع قبل أن تطلع الشّمس »‏.‏

قال « عمر رضي اللّه عنه إنّ المشركين كانوا لا يفيضون حتّى تطلع الشّمس ويقولون أشرق ثبير كيما نغير وأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خالفهم فأفاض قبل أن تطلع الشّمس » وعن نافع أنّ عبد اللّه بن الزبير رضي اللّه عنهما أخّر في الوقت حتّى كادت الشّمس تطلع فقال ابن عمر رضي اللّه عنهما إنّي أراه يريد أن يصنع كما صنع أهل الجاهليّة فدفع ودفع النّاس معه‏.‏

وقال النّووي وقد استبدل النّاس بالوقوف على قزح ‏"‏ المشعر الحرام ‏"‏ الوقوف على بناء مستحدث في وسط المزدلفة‏,‏ وفي حصول أصل هذه السنّة بالوقوف في ذلك المستحدث وغيره من مزدلفة ممّا سوى قزح وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا يحصل به‏,‏ لأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وقف على قزح وقد قال صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « لتأخذوا عنّي مناسككم »‏.‏

والثّاني‏:‏ وهو الصّحيح بل الصّواب أنّها تحصل‏,‏ وبه جزم القاضي أبو الطّيّب في كتابه المجرّد‏,‏ والرّافعي وغيره‏,‏ لحديث جابر رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال‏:‏ « نحرت هاهنا ومنىً كلها منحر فانحروا في رحالكم ووقفت هاهنا وعرفة كلها موقف ووقفت هاهنا وجمع كلها موقف »‏,‏ وجمع هي المزدلفة والمراد‏:‏ وقفت على قزح‏,‏ وجميع المزدلفة موقف لكنّ أفضلها قزح‏,‏ لما أنّ عرفات كلّها موقف وأفضلها موقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عند الصّخرات‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّ الوقوف بمزدلفة واجب‏,‏ قال ابن عابدين‏:‏ الوقوف بمزدلفة واجب لا سنّة والبيتوتة بمزدلفة سنّة مؤكّدة إلى الفجر لا واجبة‏.‏

وركن الوقوف الكينونة في مزدلفة سواء كان بفعل نفسه أو بفعل غيره بأن كان محمولاً وهو نائم أو مغمىً عليه أو كان على دابّة‏,‏ لحصوله كائناً بها‏,‏ علم بها أو لم يعلم‏,‏ ومكان الوقوف أجزاء المزدلفة أي جزء كان وله أن ينزل في أيّ موضع شاء منها‏,‏ إلّا أنّه لا ينبغي أن ينزل في وادي محسّر لقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « إلّا وادي محسّر »‏,‏ ولو وقف به أجزأه مع الكراهة‏.‏

والأفضل أن يكون وقوفه خلف الإمام على الجبل الّذي يقف عليه الإمام وهو جبل قزح‏.‏ وأمّا زمان الوقوف فما بين طلوع الفجر من يوم النّحر وطلوع الشّمس‏,‏ فمن حصل بمزدلفة في هذا الوقت فقد أدرك الوقوف‏,‏ سواء بات بها أو لا‏,‏ فإذا فاته الوقوف عن وقته إن كان لعذر فلا شيء عليه‏,‏ وإن كان لغير عذر فعليه دم‏.‏

وقدر الواجب من هذا الوقوف عندهم ساعة ولو لطيفةً وقدر السنّة امتداد الوقوف إلى الإسفار جداً‏.‏

وذهب ابن الماجشون من المالكيّة إلى أنّ الوقوف بالمشعر الحرام من فرائض الحجّ لا من سننه‏,‏ قال الآبي في تعليقه على هذا القول‏:‏ والسنّيّة هي الّتي تفهم من قواعد عياض‏.‏

لقط حصيات الرّجم من مزدلفة

11 - ذهب الفقهاء في الجملة إلى أنّه يستحب للحاجّ أخذ حصى الجمار من مزدلفة‏,‏ لحديث ابن عبّاس رضي اللّه عنهما قال‏:‏ « قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم غداة العقبة وهو على ناقته ألقط لي حصىً فلقطت له سبع حصيات هنّ حصى الخذف‏.‏‏.‏‏.‏ » ‏"‏ الحديث‏,‏ وفي رواية‏:‏ « أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أمر ابن عبّاس رضي اللّه عنهما أن يأخذ الحصى من مزدلفة »‏.‏

ولأنّ بالمزدلفة جبلاً في أحجاره رخاوة‏,‏ ولأنّ من السنّة إذا أتى الحاج إلى منىً أن لا يعرج على غير الرّمي‏,‏ فسنّ له أن يأخذ الحصى من مزدلفة حتّى لا يشغله عنه‏,‏ لأنّ الرّمية تحيّة له كما أنّ الطّواف تحيّة المسجد الحرام‏.‏

قال الكاساني‏:‏ وعليه فعل المسلمين وهو أحد نوعي الإجماع‏,‏ وإن رمى بحصاة أخذها من الطّريق‏,‏ أو من الجمرة أجزأه وقد أساء‏.‏

والإساءة مقيّدة بالأخذ من الجمرة‏,‏ أمّا الأخذ من الطّريق أو من منىً فليس فيها إساءة‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ يندب لقط الحصيات بنفسه أو بغيره من أيّ محل إلّا العقبة فمن المزدلفة‏.‏ وأجاز الشّافعيّة لقطها من الطّريق أو من أيّ مكان كان وقالوا‏:‏ يكره لقطها من الحلّ لعدوله عن الحرم المحترم‏,‏ ولقطها من كلّ مكان نجس وممّا رمي به‏.‏

وقال أحمد‏:‏ خذ الحصى من حيث شئت‏.‏

مُزَفَّت

التّعريف

1 - المزفّت - بتشديد الفاء وفتح الزّاي والفاء - في اللغة‏:‏ الوعاء المطلي بالزّفت - بكسر الزّاي - وهو القار‏.‏

ويستعمل الفقهاء هذا اللّفظ بالمعنى اللغويّ نفسه‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الحَنْتَم‏:‏

2 - الحنتم في اللغة‏:‏ جرار مدهونة خضر كانت تحمل الخمر فيها إلى المدينة ثمّ اتُّسع فيها فقيل للخزف كلّه حنتم‏,‏ واحدتها حَنْتَمة‏.‏

ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن المعنى اللغويّ‏.‏

قال العدوي‏:‏ الحنتم ما طلي من الفخّار بالزجاج كالأصحن الخضر المعروفة‏.‏

والصّلة بينهما أنّ الحنتم والمزفّت يشتركان في سرعة اشتداد الأنبذة فيهما‏.‏

ب - النّقير‏:‏

3 - النّقير على وزن فعيل بمعنى مفعول في اللغة‏:‏ خشبة تنقر وينبذ فيها‏.‏

ويستعمل الفقهاء هذا اللّفظ بالمعنى اللغويّ نفسه‏,‏ قال العدوي‏:‏ النّقير هو جذع النّخيل ينقر ويجعل ظرفاً كالقصعة‏.‏

والصّلة بين النّقير والمزفّت هو إسراع الإسكار إلى ما أنتبذ فيهما‏.‏

الحكم الإجمالي

الانتباذ في المزفّت

4 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة في الصّحيح إلى أنّه يجوز الانتباذ - وهو أن يجعل في الماء حبّات من تمر أو زبيب أو نحوهما ليحلو ويشرب - في المزفّت وغيره من الأوعية ويجوز الشرب منها ما لم يصر مسكراً‏,‏ لمّا روى بريدة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال‏:‏ « كنت نهيتكم عن الأشربة أن لا تشربوا إلّا في ظروف الأدم فاشربوا في كلّ وعاء غير أن لا تشربوا مسكراً »‏.‏ وهذا دليل على نسخ النّهي ولا حكم للمنسوخ‏.‏

قال النّووي في تعليقه على حديث أبي هريرة عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم « أنّه نهى عن المزفّت والحنتم والنّقير » كان الانتباذ في هذه الأوعية ‏"‏ المزفّت والدبّاء والحنتم والنّقير‏"‏ منهياً عنه في أوّل الإسلام خوفاً من أن يصير مسكراً فيها ولا نعلم به لكثافتها فتتلف ماليّته‏,‏ وربّما شربه الإنسان ظاناً أنّه لم يصر مسكراً فيصير شارباً للمسكر وكان العهد قريباً بإباحة المسكر فلمّا طال الزّمان واشتهر تحريم المسكر وتقرّر ذلك في نفوسهم نسخ ذلك وأبيح لهم الانتباذ في كلّ وعاء بشرط أن لا يشربوا مسكراً‏,‏ وهذا صريح قوله صلّى اللّه عليه وسلّم في حديث بريدة المذكور‏.‏

قال ابن بطّال‏:‏ النّهي عن الأوعية إنّما كان قطعاً للذّريعة فلمّا قالوا‏:‏ لا نجد بدّاً من الانتباذ في الأوعية قال‏:‏ « انتبذوا وكل مسكر حرام » وهكذا الحكم في كلّ شيء نهي عنه بمعنى النّظر إلى غيره فإنّه يسقط للضّرورة‏,‏ كالنّهي عن الجلوس في الطرقات‏,‏ فلمّا قالوا لا بدّ لنا منها‏,‏ قال‏:‏ « أعطوا الطّريق حقّه »‏.‏

وذهب المالكيّة وأحمد وإسحاق وهو مروي عن ابن عمر وابن عبّاس رضي اللّه عنهم إلى كراهة الانتباذ في المزفّت‏.‏

قال العدوي بعد أن نقل مذهب المالكيّة بكراهة الانتباذ في المزفّت‏,‏ والنّهي في هاتين‏:‏ أعني الدبّاء والمزفّت ولو كان المنبوذ شيئاً واحداً‏,‏ وأمّا تنبيذ شيئين فمنهي عنه‏,‏ ولو في نحو الصّينيّ‏,‏ ومحل نهي الكراهة حيث احتمل الإسكار لا أن قطع به أو بعدمه بأن قصر الزّمن وإلّا حرم في الأوّل وجاز في الثّاني‏.‏

ويرى الحنفيّة أنّ المزفّت إن أنتبذ فيه قبل استعماله في الخمر فلا إشكال في حلّه وطهارته‏,‏ وإن أستعمل فيه الخمر ثمّ أنتبذ فيه‏,‏ ينظر‏:‏ فإن كان الوعاء عتيقاً يطهر بغسله ثلاث مرّات‏,‏ وإن كان جديداً لا يطهر عند محمّد لتشرب الخمر فيه بخلاف العتيق‏,‏ وعند أبي يوسف يغسل ثلاثاً ويجفّف في كلّ مرّة‏,‏ وهي من مسائل غسل ما لا ينعصر بالعصر‏,‏ وقيل عند أبي يوسف يملأ ماءً مرّةً بعد أخرى حتّى إذا خرج الماء صافياً غير متغيّر لوناً أو طعماً أو رائحةً حكم بطهارته‏.‏

وقال شيخ الإسلام أبو بكر المعروف بخواهر زادة‏:‏ هذا مثل ظرف الخمر بعدما صبّ منه الخمر‏,‏ أمّا إذا لم يصب منه الخمر حتّى صار الخمر خلاً ما حال الظّرف‏؟‏ لم يذكر محمّد هذا في الأصل‏.‏

وقد حكي عن الحاكم أبي نصر محمّد بن مهروّيه أنّه كان يقول‏:‏ ما يواري الإناء من الخلّ لا شكّ أنّه يطهر‏,‏ لأنّ ما يواري الخل من الإناء فيه أجزاء الخلّ وأنّه طاهر‏,‏ وأمّا أعلى الحبّ الّذي انتقص من الخمر قبل صيرورته خلاً فإنّه يكون نجساً‏,‏ لأنّ ما يداخل أجزاء الحبّ من الخمر لم يصر خلاً بل يبقى فيه كذلك خمراً فيكون نجساً فيجب أن يغسل أعلاه بالخلّ حتّى يطهر الكل‏,‏ لأنّ غسل النّجاسة الحقيقيّة بما سوى الخمر من المائعات الّتي تزيل النّجاسة جائز عندنا - أي عند الحنفيّة - فإذا غسل أعلى الحبّ بالخلّ صار ما دخل فيه من أجزاء الخمر خلاً من ساعته فيطهر الحب بهذا الطّريق‏,‏ فأمّا إذا لم يفعل هكذا حتّى ملئ من العصير بعد ذلك فإنّه ينجس العصير ولا يحل شربه‏,‏ لأنّه عصير خالطه خمر إلّا أن يصير خلاً‏.‏

مُزَكِّي

التّعريف

1 - المزكِّي‏:‏ اسم فاعل للفعل‏:‏ زكَّى‏,‏ ويتعدّى بالتّضعيف وبالهمزة‏:‏ يقال زكَّى فلان الشّاهد تزكيةً‏,‏ فهو مزكٍّ‏:‏ نسبةً إلى الزّكاء‏,‏ وهو الصّلاح وزكّى عن ماله‏:‏ فهو مزكٍّ أخرج الزّكاة منه‏,‏ وزَكَا الرّجل - بالتّخفيف - يزكو‏:‏ صلح‏,‏ وطَهُرَ‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ هو اسم يطلقه الفقهاء على من يَخْبُرُ ببواطن أحوال الشّاهد ويعلم منه ما لا يعلم عنه غيره لطول عشرة أو جوار أو معاملة‏,‏ ويشهد بما يعلم عنه من تعديل أو جرح عند القاضي‏,‏ وقد يطلق على من يبعثهم القاضي لبحث أحوال الشهود‏,‏ لأنّهم سبب التّزكية‏,‏ ويسمّى أصحاب المسائل‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالمزكّي

اتّخاذ القاضي المزكّين

2 - قال الشّافعي‏:‏ ينبغي أن يكون للحاكم مزكون‏,‏ وهم‏:‏ من يعرفون الشهود‏,‏ ويَخْبُرون ببواطن أحوالهم‏,‏ فيُرْجع إليهم ليبيّنوا حال الشهود‏.‏

وأصحاب المسائل وهم‏:‏ الّذين يبعثهم الحاكم إلى المزكّين ليبحثوا عن أحوال الشهود ويسألوا عنهم من يعرف أحوالهم‏,‏ وربّما يفسّر أصحاب المسائل بالمزكّين‏.‏

شروط المزكّي

3 - يشترط في المزكّي أن يكون مسلماً مكلّفاً حراً ذكراً عدلاً وليس بينه وبين المزكّى عداوة في جرح‏,‏ وعدم بنوّة أو أبوّة في تعديل عارفاً الجرح والتّعديل‏,‏ وأسبابها‏,‏ لئلّا يجرح عدلاً‏,‏ ويزكّي فاسقاً‏,‏ خبيراً بحقيقة باطن من يعدّله لصحبة أو جوار أو معاملة قديمة‏.‏

عدد من يقبل في التّزكية

4 - اختلف الفقهاء في عدد شهود التّزكية فذهب جمهور الفقهاء الشّافعيّة والحنابلة والحنفيّة‏,‏ وهو المشهور عند المالكيّة إلى أنّها عدلان‏,‏ وفي قول عند المالكيّة‏:‏ لا بدّ من ثلاثة‏.‏

رجوع المزكّين عن تعديل الشهود

5 - إذا رجع المزكون عن تعديل شهود قتل أو حَدّ فالأصح عند الشّافعيّة‏:‏ أنّهم يضمنون بالقصاص أو الدّية‏,‏ لأنّهم ألجئوا القاضي إلى الحكم المفضي إلى القتل‏,‏ وإلى هذا ذهب الصّاحبان من الحنفيّة‏,‏ ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة‏:‏ منع الضّمان لأنّهم كالممسك مع القاتل‏,‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ عليهم الدّية لا القصاص‏,‏ وقال المالكيّة‏:‏ لا يغرم المزكّي شيئاً من الدّية ولا يقتص منه إن رجع عن تعديل شهود قتل عمد أو زنى محصن بعد قتله بالقصاص‏,‏ أو الرّجم لأنّهم لم يتلفا مالاً فيغرمانه‏,‏ ولا نفساً فيطالبا ديةً أو قصاصاً‏.‏

وانظر تفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏ تزكية ف / 19‏,‏ وقضاء ف / 46 ‏)‏‏.‏

مِزْمَار

التّعريف

1 - المزمار بكسر الميم لغةً‏:‏ آلة الزّمر‏,‏ والزِّمارة حرفة الزّمّار‏,‏ والمزمور ما يترنّم به من الأناشيد والجمع مزامير‏,‏ ومزامير داود‏:‏ ما كان يترنّم به داود عليه السّلام من الزّبور وضروب الدعاء‏.‏

والمزمار اصطلاحاً‏:‏ هو الآلة الّتي يزمّر فيها وهو من القصب‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

المعازف‏:‏

2 - المعازف لغةً‏:‏ الملاهي كالعود والطنبور‏,‏ الواحد‏:‏ عُزفٌ أو مِعْزَفٌ كمنبر ومِعزَفةٌ كمكنسة والعازف‏:‏ اللّاعب بها والمغنّي‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

والمعازف أعم من المزمار‏.‏

الحكم التّكليفي

2 - نصّ الفقهاء على أنّ استعمال آلات اللّهو كالمزمار والعود وغيرهما محرّم من حيث الجملة‏.‏

واستدلّ الفقهاء على حرمة استعمال المزمار بحديث أبي أمامة عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال‏:‏ « إنّ اللّه عزّ وجلّ بعثني رحمةً وهدىً للعالمين وأمرني أن أمحق المزامير والكيارات والمعازف »‏.‏

حكم الاستماع للمزمار ونحوه من الآلات النّفخيّة

4 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى عدم جواز الاستماع للمزمار وغيره من آلات اللّهو المحرّمة‏.‏

جاء في الزّواجر قال القرطبي‏:‏ أمّا المزامير والأوتار والكوبة فلا يختلف في تحريم سماعها ولم أسمع عن أحد ممّن يعتبر قوله من السّلف وأئمّة الخلف من يبيح ذلك وكيف لا يحرم وهو شعار أهل الخمور والف

سوق ومهيّج الشّهوات والفساد والمجون‏,‏ وما كان كذلك لم يشك في تحريمه ولا في تفسيق فاعله وتأثيمه‏.‏ ‏(‏ ر‏:‏ استماع ف / 29 ‏)‏‏.‏

حكم بيع المزمار

5 - ذهب جمهور الفقهاء‏:‏ المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة والصّاحبان من الحنفيّة إلى تحريم بيع المزمار وآلات اللّهو المحرّمة كالمعازف‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ معازف ‏)‏‏.‏

حكم تعلم النّفخ في المزمار

6 - لا يجوز تعلم علوم محرّمة كتعلم النّفخ في المزمار‏,‏ وأخذ العوض على تعليمها‏,‏ حرام‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ معازف ‏)‏‏.‏

حكم صناعة المزمار وشهادة صانعه

7 - قال ابن قدامة‏:‏ من كانت صناعته محرّمةً كصانع المزامير والطّنابير فلا شهادة له‏,‏ ومن كانت صناعته يكثر فيها الرّبا كالصّائغ والصّيرفيّ ولم يتوقّ ذلك ردّت شهادته‏.‏

سرقة المزمار وكسره لمسلم

8 - ذهب الحنفيّة والحنابلة وهو مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة إلى أنّه لا قطع في سرقة المزمار ونحوه من المعازف المحرّمة‏.‏

وذهب المالكيّة والشّافعيّة في الأصحّ إلى أنّه لا قطع في سرقة المزمار ونحوه من المعازف المحرّمة إلّا أن تساوي بعد كسرها نصاباً‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ معازف ‏)‏‏.‏

شهادة المستمع للمزمار

9 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا تقبل شهادة المستمع للمزمار وترد شهادته وتسقط عدالته‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏ معازف ‏)‏‏.‏

مُسَابَقَة

انظر‏:‏ سباق‏.‏

مَسَاجِد

انظر‏:‏ مسجد‏.‏

مُسَارَقة

التّعريف

1 - المسارقة - بوزن مفاعلة‏:‏ مصدر لفعل سارق يسارق مسارقةً‏,‏ وهي في اللغة النّظر مستخفياً والسّمع كذلك‏:‏ إذا طلب غفلةً لينظر إليه أو يتسمّع‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

أحكام المسارقة

أ - مسارقة النّظر‏:‏

2 - الأصل في مسارقة النّظر إلى الآخرين الحرمة ‏;‏ لأنّها تجسس والتّجسس حرام لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَلَا تَجَسَّسُوا ‏}‏‏,‏ وقد ورد النّهي عن استراق السّمع‏,‏ واختلاس النّظر في المنازل فقد روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال‏:‏ « من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يفرون منه صبّ في أذنيه الآنك يوم القيامة »‏,‏ ولخبر‏:‏ « لو اطّلع في بيتك أحد ولم تأذن له‏,‏ حذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح »‏.‏

و ‏(‏ من ‏)‏ من صيغ العموم في العقلاء فتشمل الرّجل والمرأة والخنثى‏,‏ لأنّ الرّمي الوارد في الحديث ليس للتّكليف‏,‏ بل لدفع مفسدة النّظر‏.‏

وقد اختلف الفقهاء في جواز الرّمي على مسارق النّظر في البيوت فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه لا يجوز الرّمي على النّاظر ويضمن إن فقأ عينه‏,‏ والحديث منسوخ‏.‏

جاء في تبصرة الحكّام‏:‏ ولو نظر من كوّة أو من باب ففقأ عينه صاحبه ضمن‏,‏ لأنّه قادر على زجره ودفعه بالأخفّ‏,‏ ولو قصد زجره بذلك فأصاب عينه ولم يقصد فقأها ففي ضمانه خلاف‏,‏ وقال الحنفيّة‏:‏ فإن لم يمكن دفع المطّلع إلّا بفقء عينه ففقأها فلا ضمان‏,‏ وإن أمكن ذلك بدون فقء العين ففقأها ضمن‏.‏

وقال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إنّه إن نظره في داره المختصّة به بملك أو غيره من كوّة أو ثقب عمداً فرماه بخفيف كحصاة ففقأ عينه أو أصاب قرب عينه فجرحه فمات فهدر للخبر السّابق‏.‏

ويشترط في جواز الرّمي عند من يقول به‏:‏

أ - أن ينظر في كوّة أو ثقب‏,‏ فإن نظر من باب مفتوح فلا يرميه لتفريط صاحب الدّار بفتحه‏.‏

ب - وأن تكون الكوّة صغيرةً‏,‏ فإن كانت كبيرةً أو شبّاكاً واسعاً فهي كالباب المفتوح فلا يجوز له رميه لتقصير صاحب الدّار‏,‏ إلّا أن ينذره فلا يرتدع فيرميه‏.‏

وحكم النّظر من سطح نفسه‏,‏ والمؤذّن من المنارة كالكوّة الصّغيرة على الأصحّ إذ لا تفريط من صاحب الدّار‏.‏

ج - أن لا يكون النّاظر أحد أصوله الّذين لا قصاص عليهم ولا حدّ قذف‏,‏ فلا يجوز رميه في هذه الحال لأنّ الرّمي نوع من الحدّ فإن رماه ففقأ عينه ضمن‏.‏

د - أن لا يكون النّظر مباحاً له لخطبة بشرطها‏,‏ ونحو ذلك‏.‏

هـ - أن لا يكون للنّاظر في الموضع محرم له أو زوجته‏,‏ فإن كان فيه شيء من ذلك حرم رميه وضمن إن فقأ عينه أو جرحه ‏;‏ لأنّ له في النّظر شبهةً‏.‏

قيل‏:‏ ويشترط عدم استتار الحرم‏,‏ فإن كنّ مستترات بالثّياب أو في منعطف لا يراهنّ النّاظر فلا يجوز رميه لعدم اطّلاعه عليهنّ‏,‏ والأصح عند الشّافعيّة عدم اشتراط ذلك لعموم الأخبار‏,‏ وحسماً لمادّة النّظر‏.‏

وقيل‏:‏ يشترط إنذاره قبل رميه‏,‏ والأصح عدم الاشتراط‏.‏

و - أن يتعمّد النّظر‏,‏ فإن لم يقصد النّظر كأن كان مجنوناً أو مخطئاً أو وقع نظره اتّفاقاً فإنّه لا يرميه إذا علم ذلك صاحب الدّار‏,‏ ويضمن إن رماه فأعماه أو جرحه فمات بسراية‏.‏ فإن رماه وادّعى المرمي عدم القصد فلا شيء على الرّامي‏,‏ لأنّ الاطّلاع وقع والقصد باطن لا يطّلع عليه‏.‏

ز - أن لا ينصرف عن النّظر قبل الرّمي‏.‏

فلا يجوز الرّمي بعد امتناعه عن المسارقة‏.‏

ولا يشترط أن يكون الموضع ملكاً للمنظور فللمستأجر رمي مالك الدّار إذا سارقه النّظر‏.‏ وتفصيل ذلك في ‏(‏ تجسّس ف / 13 ‏)‏‏.‏

ب - مسارقة النّظر ممّن يريد الخطبة‏:‏

3 - اتّفق الفقهاء على مشروعيّة نظر الخاطب لمن يرغب في خطبتها قال ابن قدامة‏:‏ لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في إباحة النّظر إلى المرأة لمن يريد نكاحها‏,‏ كما ذهب جمهورهم إلى عدم اشتراط علم المراد خطبتها أو إذنها أو إذن وليها في النّظر إليها‏,‏ فيجوز لمن يرغب في خطبتها أن ينظر خلسةً لإطلاق الأخبار واكتفاء بإذن الشّارع ولئلّا تتزيّن فيفوت غرضه‏,‏ وفي حديث جابر‏:‏ « وكنت أتخبّأ لها »‏.‏

ج - مسارقة السّمع‏:‏

4 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ مسارقة السّمع - وهو التّنصت على أحاديث أناس بغير علمهم ورضاهم - محرّم يعاقب عليه السّارق في الآخرة لحديث‏:‏ « من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يفرون منه صبّ في أذنيه الآنك يوم القيامة »‏.‏

ولكن لا يجوز رميه لعدم ورود نصٍّ في مشروعيّة الرّمي فيه‏,‏ ولأنّ السّمع ليس كالبصر في الاطّلاع على العورات‏.‏

‏(‏ ر‏:‏ استراق السّمع ف / 4 ‏)‏‏.‏